د. نادية هناوي
كان إعلان البيان الشعري عام 1969 بمثابة حجر الزاوية الذي به تعززت وهمية القول بـ( الجيل الستيني) بناء على قصدية مبيتة وهي تأكيد الانقطاع عن جيل الرواد خاصة والتمرد على ثوابت التراث عامة.
وعُلِّقت على شماعة هذا البيان الشعري تحليلات وتعليلات ورؤى عرضها الشعراء منظرو التجييل العقدي في شهاداتهم، ولان في هذه الشهادات مغالطات وهفوات، كان لابد للشاعر عبد الكريم كاصد من أن يتخذ من الشهادة منطلقا في الرد عليهم ومحاججتهم في كتابه الصادر مؤخرا والمعنون ( رهان الستينات: نقد البيان الشعري) مقدما الشهادة ومن بعدها دراسته التي نشرت عام 1969 في مجلة الثقافة الجديدة، لا لان تلك الدراسة تحتاج إلى التقديم وإنما هي أهمية كتابة الشهادة التي توازي أهمية إعادة نشر الدراسة، لسببين: الأول تهشيم الهالة التي أحاطت شعراء التجييل العقدي وثانيا إظهار الخفايا وكشف المستورات.. لكن لماذا انبرى عبد الكريم كاصد لتقديم شهادته من بعد مضي أكثر من خمسين عاما ؟.
لا شك في أن البيان الشعري كان قد أثار آنذاك ردود أفعال كثيرة سلبية وإيجابية ما بين النقاد والشعراء ومنهم عزيز السيد جاسم وطراد الكبيسي وعبد الكريم كاصد وسركون بولص وغيرهم، لكن هذه الردود لم تستطع أن تمنع مقولة ( الجيل الستيني) من ان تشيع وتفرِّخ مقولات مماثلة في العقود اللاحقة وما زالت إلى اليوم تفرِّخ مقولات التجييل العقدي. من هنا جاء كتاب الشاعر عبد الكريم كاصد مهماً في الانتفاض على مغالطات البيان الشعري وما تمخض عنها أيضا من كتب وشهادات، وعن ذلك قال:( ما يثير حيرتي ان مثل هذا البيان المتهافت الضاج تلقى من ضجيج المدائح ما يفوق ضجيجه) وقد اعتمد الشاعر في الإدلاء بشهادته على ركيزتين هما:
أولا/ معاصرته المرحلة وهو احد أطراف الصراع فيها مواجها من لهم في هذا الصراع نفوذ ومركزية.
ثانيا/ أن تعرضه إلى الملاحقات أجبره على الترحال وفتح له الأبواب واسعة لإقامة علاقات مع شعراء عرب سوريين ولبنانيين وأجانب فيما بعد. وبسبب ذلك كله اطلع وألمَّ بكثير من خفايا الوسط الثقافي داخل العراق وخارجه.
وأهمية شهادة عبد الكريم كاصد ليست في نقدها التجييل العقدي وإنما في نقدها المحور الذي عليه قامت فكرة التجييل العقدي وهو البيان الشعري. وقبل أن يبدأ عبد الكريم كاصد بإعادة نشر دراسته التي حملت عنوان(نقد البيان الشعري) مثلما نشرتها مجلة الثقافة الجديدة في عددها الرابع تموز 1969 أي بعد شهور من إعلان البيان قام بوضع نص البيان كاملا لا كما نشر في العدد الأول من مجلة شعر 69 وإنما كما نشر في كتاب( شعراء البيان الشعري) للدكتور خالد علي مصطفى ثم وضع تعقيبا تتبع فيه أخطاء النص الإملائية والنحوية والمطبعية والجمل المرتبكة مؤكدا أن قصده جعل القارئ على بينة من ذلك كله. ولكن ما ختم به كاصد تعقيبه يدلل على أن قصده الأساس كان النكاية بالكاتب تعبيرا عن حنقه من الدور الذي مارسه في إعادة البيان إلى الواجهة النقدية من جديد.
ومن بعد هذا التعقيب يأتي دور الدراسة التي فيها كان عبد الكريم كاصد باحثا يعرض حججه ويقدم أدلته بمنهجية علمية وروح موضوعية وتحاور نقدي وبلغة هادئة ومتزنة على عكس نبرة عبد الكريم كاصد الشاهد، أولا لاختلاف ظروف كتابة الدراسة عن ظروف كتابة الشهادة وثانيا الامتداد الزمني الطويل الذي خاض الشاعر خلاله تجارب كثيرة متحصلا على نتائج مهمة تضمنتها شهادته وهي بمجموعها تضرب التجييل العقدي في الصميم، ومنها:
1 ) ان البيان ليس شعريا لوقوعه في فخ التناقضات حتى في حديثه عن الشعر.
2 ) ان البيان لقى صدى إعلاميا لا يناسبه وهو بلا أهمية ولهذا لا يصح وصفه بالشعري.
3 ) ان تحزبات وولاءات واخوانيات كانت سببا في تضخيم صيت هذا البيان.
4 ) ان الشاعر خالد علي مصطفى ـ برأي كاصد ـ هو من انهض البيان من رقدته وأعاده للواجهة من خلال تأليف كتابين عنه هما( شعراء البيان الشعراء) و(شعراء خارج البيان الشعري) فزاد في التضخيم تضخيما. ولذلك كان حنق الشاعر كاصد عليه كبيرا.
5 ) أخذ على فاضل العزاوي انكساره رغم وجوده حراً خارج العراق متسائلا:( كيف يرتضي أن يكون الناطق بلسان من لم ينطقوا بحرف واحد وهم أمراء الكلام كما يدعون وإن ادعى: أنه الرأس والآخرون ذيول)
أما هدف الباحث من الدراسة فكان الكشف عن إغارات الشعراء الأربعة ـ الموقعين على البيان ـ وما أستلوه من مقولات شعرية ونقدية وفلسفية ونفسية ووضعوها في البيان من دون الإشارة إلى مظانها أو الإحالة على الكتب التي منها اقتبسوا تلك الفقرات.
وكانت طريقة الباحث في كشف السرقات تقوم على مناقشة كل فقرة من البيان على حدة من خلال الرجوع إلى المظان التي منها اُغتصبت الفقرة مؤكدا بذلك جهل الشعراء الأربعة بخلفية أو حقيقة ما قاموا بسرقته أصلا. ومن الفقرات التي ناقشها عبد الكريم كاصد وأكد من خلالها تهافتات البيان ما يأتي:
أولا/ مقولة ( إن العالم ناقص وكذلك الأشياء والموجودات) كشف الباحث سرقتها من أرسطو لكن بشكل غير مباشر من خلال تساؤل استنكاري( ألا يستدعي ذلك السقوط في المفهوم الأرسطي القائل ان الحقيقة الوحيدة الثابتة هي خارج الزمان والمكان؟ )
ثانيا/ مقولة ( منطقة الشعر صحراء غير مرئية من قبل الآخرين) كشف الباحث سرقتها من سارتر وتوملنسون وأتى بدلائل من كتب فلسفية.
ولزيادة الإيغال في إثبات فقر الشعراء الأربعة بالفلسفة الغربية وأنهم وقعوا في فخ التناقضات حتى في حديثهم عن الشعر، راح الباحث يناقش الفهم الجدلي للحقيقة والوعي الميتافيزيقي مستشهدا بفلسفات بارمنيدس وبرغسون وباركلي في الفكر الفلسفي عند الهندي لرداكرشنا وشارلمور وهيجل. ولم ينس الوقوف عند فلسفة الحلاج وصوفية ابن عربي. كما وقف عند فرويد وستالين وهوسرل وإليوت وكونفيشيوس وبوذا ود. هـ . لورنس.
ثالثا/ مقولة ( إن الفن بصري) عاد بها الباحث إلى صاحبها الذي سُرقت منه لا بالقول إنها مسروقة من توملنسون وإنما بجعله حاضرا داخل المجلة على هذا النحو( يقول توملنسون في المجلة” شعر69” ذاتها ان على المرء ان يؤكد على الفن البصري لان الفن البصري ما زال جوهر الشعر منذ الرجال العظام) وهي طريقة ذكية بها تخلص من إحراج القول مباشرة بأن فاضل العزاوي وأصحابه سرقوا المقولة من توملنسون ثم عزز السرقة أكثر بالتساؤل الآتي: ( أليست قصائد فاضل العزاوي المنشورة في مجلة شعر 69 قصائد بصرية؟
رابعا/ مقولة( صناعة الحلم) أكد الباحث أن وجودها في البيان يكشف عن تناقضات تتضح ( بشكل صارخ عن فرويد في صناعة الحلم لان فرويد الذي يتناوله البيان لا يوجد في الحقيقة إلا في أذهان أصحاب البيان) وفصل الباحث في آراء فرويد وأحال على كتاب(الأحلام والجنس عند فرويد) لعالم النفس الأمريكي جوزيف جاسترو .
ولم يكتف بتتبع مواضع السرقات التي فيها أغار أصحاب البيان على أفكار فلاسفة ومفكرين قدماء ومعاصرين وإنما دخل في مجادلات فكرية، مدللا على قلة باع مؤلفي البيان في الإفادة من المقولات والأفكار التي تخدم الشعر ولغته. هذا إلى جانب تساؤلاته التهكمية مثل: كيف للفراغ ان يضيء الفراغ ؟ كيف تضيء الشعر فلسفة تقوم فكرتها ..على لا هذا ولا هذا وتقر بعدم إمكانية وصف المطلق وتطالب بالصمت؟ وهل اللغة مؤسسة خارج الواقع والفكر؟ أهذا هو اكتشاف فرويد ؟ أين أنا في الحقيقة؟ أحقا لا يعرف أصحاب البيان أين هم حين يفكرون هل هي باركلية جديدة ؟.
وإذ يكثر الباحث من استعمال مفردة (البيان) فانه بها تمكن من النأي بنفسه عن الاصطدام المباشر بالشعراء الأربعة أولا، وضمن للغته البحثية الاستمرار على النهج الموضوعي ثانيا، ومارس دور المعلم الأستاذ ثالثا علما أن الباحث عبد الكريم كاصد متخصص في علم النفس وله في ذلك دراسات كما أن له باعا في مسائل فلسفية ونفسية وقف عندها ودلل من خلالها على عمق معرفته بها.
وتظل المؤاخذة الأهم التي أخذها الباحث على كتّاب البيان هي الأمانة العلمية التي تقتضي من أي كاتب أو باحث حين يأخذ أقوالا أو أفكارا من غيره أن يشير إلى موضع الاقتباس أو يحصره بين قوسين.
وعلى الرغم من كثرة المؤاخذات وحدة الهفوات التي سجلها الباحث على البيان الشعري، فان اللغة الموضوعية دفعته إلى أن لا ينسى الايجابيات، كإشادته بإدانة البيان للشعر السياسي المتهافت.
ولا ننكر أن الباحث غالى أحيانا وهو يتعمق في الفلسفة من قبيل ما ختم به دراسته والتي بدت لنا زائدة ولا تخدم هدفه وهو الشعر الذي هو موضوعه وليست الفلسفة.
وإذ اعترف الشاعر كاصد في شهادته أن فاضل العزاوي هو من كتب البيان، فإننا لا نجد في الدراسة أية إشارة إلى ذلك، بل ظل الكلام عاما في الأربعة دون تخصيص في واحد منهم. ولعل هذا جزء من الاتزان في الطرح ولعله أيضا نوع من المداراة فرضها ظرف الكتابة وطبيعة النشر آنذاك. والدليل على ذلك ما نجده في الختام وفيه قلل الباحث من حدة مؤاخذاته بالاستدراك والاعتذار، ذاكرا فاضل العزاوي بالاسم لأول مرة ولكن بشكل مبتسر:( ان قصائد فاضل العزاوي المنشورة في العدد نفسه رغم مآخذنا عليها تؤكد أنهم يعيشون واقعهم بارتعاش وصدق لكننا نرفض ان تكون أزماتهم الذاتية قوانين للعالم ان ردنا يجب ان نؤكد مرة أخرى ليس من اجل تأكيد مفاهيمنا ولكن من اجل الوصول إلى مفاهيم أعلى.)
إن الشاعر عبد الكريم كاصد شاهد عيان آلمه ما شاهده وما لمسه ــ ومعه عشرات من شعراء العراق ــ من عنف السياسة والايديولوجيا حين تتدخل في الشعر والشعراء داخل العراق أو خارجه. وبسبب هذا الأمر لم تستطع أية جماعة من الجماعات الأدبية العراقية بما في ذلك جماعة البيان الشعري أن تستمر في وجودها وتبني لها معمارا إبداعيا كمعمار جماعة الديوان أو ابولو أو المهجر.
وعلى الرغم من أن مقولة( الجيل الستيني) ثبّتت نفسها نقديا وكان للبيان أثر في ذلك، بيد أن التجييل شيء، وترك أثر فني في الشعر شيء آخر. من هنا انتهى المطاف بجماعة البيان إلى التصادي وكل واحد يتناوش الآخر، فضلا عما تركه التجييل من إشكاليات على نقدنا العراقي، وما ذلك إلا لأن الدوام للحقائق مهما حاولوا طمسها.