ستار كاووش
لا تتوقف الشائعات التي تُطال الفن والفنانين ولا تكف الأقاويل والإختلاقات التي ترمي بشباكها عليهم، والتي يبحث أصحابها ومروجوها عن الظهور بمظهر العارفين والمتابعين وأصحاب الرأي.
فلا يكاد يمضي يوم دون قراءتنا لشيء لا يمت للحقيقة بصلة، كلمات مغلفة بنوع من العاطفة الرخيصة، وكإنها حلوى مدافة بسموم خفية. آراء وإدعاءات ما أنزل الله بها من سلطان، طالت مشاهيراً ذهبوا من عالمنا وبقي إبداعهم وتاريخم وانجازاتهم المهمة. ورغم رحيل هؤلاء المبدعين، فمازالَ هناك من يعتاش على موائدهم، بل يُقَوِّلهم ما لم يقولوه، وينسب لهم ما لم يقوموا بفعله. ربما قرأ أحدكم الرسالة المزعومة التي يُشاع إنها الرسالة الأخيرة التي كتبها الرسام فنسنت فان خوخ لأخيه تَيّو، والتي تبدأ هكذا (الى أين تمضي الحياة بي …) هذه الرسالة العاطفية التي إنساقَ الكثيرون معها وإنتشرت على نطاق واسع، رغم إنها في حقيقة الأمر لا تمت لفنسنت فان خوخ بأية صلة، ولا تعود له لا من قريب ولا من بعيد، لأنها نص أدبي كتبه شاعر عربي دون توضيح لهذا الإلتباس، وقد روج الكثيرون لهذا النص بإعتباره الرسالة الأخيرة التي كتبها الرسام الشهير قبيل إنتحاره. وكي أقطع الشك باليقين، أقول بأني قد ترجمتُ بنفسي رسائل فان خوخ من الهولندية الى العربية ولم أجد في الرسائل حتى كلمة واحدة من هذه الرسالة المزعومة. الغريب حقاً إن هذه (الرسالة) لا يتوقف ظهورها على الكثير من المواقع والصحف، وتنهال عليها كلمات الإعجاب والإنبهار، وكلها إشادات بشيء مفتعل ومنسوب بشكل منتحل لفان خوخ. كما نُسبت له حكاية أخرى أشد سذاجة وسطحية، وهي حكاية إذنه التي قطعها في نوبة عصبية، والتي يُشيع البعض بكل إفتراء، بأنه قد قام بقطعها كي يهديها لإحدى النساء. فهل هناك أرخص من هذا التفسير؟! والحقيقة إنه بعد حادثة قطع أذنه مباشرة، تم نقله الى الدكتور فيليكس راي الذي كان يشرف على علاجة بتوصية من أخيه، فضمد الجرح وأبقاه تحت إشرافه حتى إستعاد عافيته.
أما العبقري بيكاسو، فلم يسلم أيضاً من سهام التلفيق التي يصدقها الجهلة والسذج، مثل تلك الحكاية التي إنتشرتْ على مواقع التواصل الإجتماعي، والتي تقول بأن الرسام العبقري قام برسم حبة قمح على الشارع، فإقتربت دجاجة محاولة إلتقاطها، فتعجب الموجودون وقالوا له (إن كنت تستطيع الرسم بهذه الامكانية والجودة، فلماذا ترسم لوحات غير مفهومة؟) فيرد عليهم (أنا لا أرسم للدجاج، فيعلو التصفيق والإعجاب (حسب القصة المُلفقة)، أو تلك الحكاية التي تقول إن بيكاسو قد دخل الى أحد المطاعم، وبعد تناوله الطعام قام برسم عملة ورقية على الطبق الفارغ وخرج خلسة من المطعم بعد أن أوهمهم بأن النقود التي في الطبق حقيقية. وهكذا نقرأ ونطلع على تفاصيل كثيرة ليس لها وجود في الواقع، وهي من تأليف ناس لا يخلون من السذاجة، أرادوا كيل المديح لبعض الفنانين بطريقة سطحية وغير مفهومة، لتفعل بعدها لايكات الإعجاب فعلها، وتكون النتيجة إرتفاع الأنا والشعور بالأهمية عند مروجي هذه الحكايات الذين لا ناقة لهم ولا جمل في ما حصلَ ويحصل في عالم الفن.
ومن أشهر التلفيقات التي حصلت لدينا في العراق وطالتْ عالم الرسم، هو ما يتعلق باللوحة التي أطلقَ عليها عامة الناس تسمية (بنت المعيدي) وحكايتها الشهيرة التي تشير الى ضابط بريطاني قد عشق هذه الفتاة الجنوبية وخطفها من أهلها، وهناك كلف أحد الرسامين برسمها، لتطير هذه الحكاية بأجنحة الخيال الشعبي وتنتشر بين الناس، تدخل البيوت وتضيء السهرات، حيث لم يخلُ بيتاً من صورة هذه اللوحة التي صارت إيقونة شعبية لا تكف عن التناسل في عقول الناس، لتتعدد نسخها المتخيلة ويصبح لكل منطقة بنت المعيدي الخاصة بها، حيث أطلق عليها الكورد تسمية (كيجيكافروش) في حين سماها التركمان (صمانجيقيزي). وكلما مرَّت السنوات يزداد الغموض الذي يحيط بهذه اللوحة وتستقر حكاية تلك الفتاة أكثر في مخيلة الناس. والشيء الحقيقي الوحيد برأيي الشخصي، هو إن هذه القصة لا وجود لها، والموديل الذي رسمت من خلاله اللوحة هي امرأة أجنبية وليست عراقية، وربما كانت موديلاً لأحد الرسامين الأنجليز في نهاية القرن التاسع عشر أو بداية القرن العشرين، وهو يتمتع بإمكانية جيدة في الرسم، لكنه ليس بمصاف الفنانين الكبار. ورغم إنه قد رسمها بطريقة جيدة، لكنها ليست بمستوى لوحات المتاحف، وقد منحها مسحة شعبية ساهمت في جعلها تنتمي للفن الهابط سريع الإنتشار، وهكذا طُبِعَتْ منها النسخ دون توقف. لكن رغم هذا النجاح الشعبي، فذلك الرسام لم يحلم بطبع ملايين النسخ من لوحته، ولم يخطر في باله أن الناس ستعشقها لهذه الدرجة