TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > مرساة: دمٌ أبيضُ

مرساة: دمٌ أبيضُ

نشر في: 13 سبتمبر, 2022: 11:58 م

 حيدر المحسن

تعالى طرْقٌ على الباب، واقتحمت الشرطة العسكرية المنزل وتهاطل المطر صار أشدّ وقعاً على الأم الجالسة في غرفة المعيشة، حيث كان الجوّ دافئا وناصعا، ورائحة الفخاتي بيضاء اللون تملأ المكان. «لا يوجد أحد في المنزل غيري».

قالت الأم، متحاشية النظر في عيون أفراد الشرطة الثلاثة، وكان ثمة بريق في عينيها شديدتيْ السواد يخمد ريبة الضابط. فتشوا المنزل سنتميترًا سنتيمترًا، ثم صعد شرطيان السلّم المؤدي إلى السطح. هنالك أريكة تجلس عليها الأم، الماء يغلي في إبريق فوق المدفأة النفطية القريبة. راح الشّرطيان يقرعان الباب المؤدّي إلى سطح البيت، ثم أطلق الضّابط شتيمة. ولكن، لم يُفتح الباب. صاح غاضباً:

«هدّموا البيت فوق رؤوس الجبناء الخائنين وطنهم!».

كانت الأم تبدو ذاهلة إلا أن نظراتها بقيتْ صافية. وحاول الشرطيان تحطيم الباب بكعاب بنادقهم، وبعد ضجّة جهنمية سقط الباب. كان كل شيء على سطح البيت مقفرا، لكن أصواتاً غريبة تناهت من أحد الزوايا. رياح ثلجيّة هبّت، والفتى المختبئ كان يرتجف في مخبئه المظلم من البرد والخوف، تغطيه تعاريش بيت الفخاتي، والموقف يزداد توتّراً في كل لحظة. فتح شرطيّ باب القفص. هل هو أعسر؟ اجتاح الفتى شعوراً منفّراً، وملأ البرد عينيه بالدّموع: هل يتركهم يسرقون طيوره، أم يستسلم لهم ثم يسوقونه إلى الحرب، كل يوم قد يكون الأخير؟ كان باستطاعته رؤية القسوة في عينيْ الشرطي وما بين جبينه وأنفه. اقتربت من مخبئه حمامة كأنما كانت تستنجد به، لأن الشرطي بدأ بجمع الطيور. هذا التردّد سوف يكلفه كثيرا، وصار البرد أقلّ لسعاً مما كان، بينما أخذت رائحة المطر تحتلّ البيت بسبب الباب المحطّم، وقد اختفى، بالإضافة إلى ذلك، الجوّ الناصع والدافئ من غرفة المعيشة. بحثت الأم عن سيجارة في علبة التّبغ الفارغة، وازداد شوقها إلى التدخين. كان بلاط المنزل يصرّ تحت قدمي الضابط وهو يروح ويجيء، واثقاً من نفسه إلى درجة أن الأم أيقنت تماماً أن ابنها ارتكب جرماً يستحق عليه العقاب.

«هل فتّشتما سطح الدّار جيداً؟”.

صاح الضابط بالشّرطيين وكانا يهبطان الدرج، يحملان الطيور مشدودة برباط. أجاب أحدهما:

«ليس هناك غير وجبة العشاء اللّذيذة هذه”. خيّم سلام جنائزيّ على البيت بعد مغادرة الشّرطة، وقضى كمال اللّيل متأجّجاً بالحمّى، وهاذيًا. عندما فتح عينيه في الصّباح قال:

«إنني عطِش”.

جاءته أمه بماء شربه كلَّه جرعة واحدة، ثم عاد إلى النوم. ظلّ المطر يسقط ثلاثةَ أيام حتى ابتلّ لحاف الفتى، وكان يراه في النافذة مثل دمٍ أبيضَ يصبغ النخلة في حديقة المنزل، وعمّت رائحة الدم وتبلل به الصمت، وتبلّل به صوت أمه. كانت تلبس في الحلم ثوباً نصل لونه، ولاحظ الفتى قطرتيْ دم بيضاويْن عند مكان الحلمتين. صاحت به:

«تعال».

وأرقدته في حضنها، وظلّ الفتى يرضع الدم برفق، وحين جفّ الثدي تحوّل إلى الثدي الآخر، ثم عاد إلى النوم، وكان الصمت الذي يغرق فيه البيت يسحقه، وعند اليقظة يصيب سحنته بالكُمدة، يقطعه بين الحين والآخر حفيف شبحيّ لأجنحة الطّيور، ورفيف ريش كأنما لملائكة تهبط.

في اليوم الرابع جاءته أمه بالطعام، لعلّ رائحة حساء السلق مع لحمة الضأن توقظه. لا فائدة. حاولت أن تقرأ أفكاره، وأرعبتها ظلال الكوابيس العابرة فوق جبينه مثل غيوم سود فوق الماء. في اليوم الخامس، وحين أدركت الأم أن ابنها يقضي حالة سبات وليس نوماً طبيعياً، حاولت بأحاديثَ وادعةٍ التّخفيفَ عنه، وفشلت. في اليوم السادس قدمت له النقود:

ـ اشترِ طيوراً أجمل.

فزّ من نومه، وصوّب نحوها عينين لامعتين، ثم قام من فراشه وأخذ يدور في المنزل، مجللاً في نفسه بالعار، تهوم به لحظات استغراق ثقيلة يتوقف فيها عن السير:

«أنت سلّمتَ طيورك للذّبح!”

كانت تهبّ طوال اللّيل في النوافذ رياح معتمة تضرب قمم الأشجار الصفراء اللامعة في الشّارع. قبل أن تشرق شمس اليوم السابع، وبينما كانت أمّه نائمة، معذّبة بالكوابيس، سلّمَ الفتى نفسه للسلطات، وقادوه مباشرة إلى الحرب.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

عمليات بغداد تغلق 208 كور صهر و118 معمل طابوق وإسفلت

أسعار الصرف اليوم: 143 ألف دينار لكل 100 دولار

ترامب: أوقفتُ 8 حروب وأعدتُ "السلام" للشرق الأوسط

الأنواء الجوية: انتهاء حالة عدم الاستقرار وطقس صحو مع ارتفاع طفيف بالحرارة

حصار فنزويلا ينعش النفط… برنت وغرب تكساس يقفزان في آسيا

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

السيد محمد رضا السيستاني؛ الأكبر حظاً بزعامة مرجعية النجف

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

 علي حسين منذ أيام والجميع في بلاد الرافدين يدلي بدلوه في شؤون الاقتصاد واكتشفنا أن هذه البلاد تضم أكثر من " فيلسوف " بوزن المرحوم آدم سميث، الذي لخص لنا الاقتصاد بأنه عيش...
علي حسين

كلاكيت: مهرجان دهوك.. 12 عاماً من النجاح

 علاء المفرجي يعد مهرجان دهوك السينمائي مجرد تظاهرة فنية عابرة، بل تحوّل عبر دوراته المتعاقبة إلى أحد أهم المنصات الثقافية في العراق والمنطقة، مؤكّدًا أن السينما قادرة على أن تكون لغة حوار، وذاكرة...
علاء المفرجي

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

لطفيّة الدليمي هناك لحظاتٌ تختزل العمر كلّه في مشهد واحد، لحظاتٌ ترتفع فيها الروح حتّى ليكاد المرء يشعر معها أنّه يتجاوز حدود كينونته الفيزيائية، وأنّ الكلمات التي كتبها خلال عمر كامل (أتحدّثُ عن الكاتب...
لطفية الدليمي

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

رشيد الخيّون حصلت أكبر هجرة وتهجير لمسيحيي العراق بعد 2003، صحيح أنَّ طبقات الشعب العراقي، بقومياته ومذاهبه كافة، قد وقع عليهم ما وقع على المسيحيين، لكن الأثر يُلاحظ في القليل العدد. يمتد تاريخ المسيحيين...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram