ستار كاووش
إستخدم الكثير من رسامي العالم الأقنعة كمفردات لمواضيع لوحاتهم، مرة لإخفاء بعض تفاصيل الوجه، وأخرى لإضفاء إيحاءات مختلفة ومنح مسحة من الغموض للوحاتهم أو الإشارة لرسائل رمزية أو إحتفالية، وربما محاولة للإختباء ومراقبة المشهد من بعيد.
وبالنسبة لي فقد إستخدمت مفردة القناع كثيراً في لوحاتي لأنها تناسب بعض الموضوعات التي أرسمها وخاصة لوحاتي التي نُشرت في كتابي (غموض الرسام) الذي صدرَ في هولندا. هكذا نرى كيف منحت مفردة القناع الكثير من الجاذبية للأعمال الفنية مثلما أضاءت الكثير من الأسئلة لدى المشاهدين. لكن الغريب إن جماعة من الرسامين الهولنديين قاموا بإستخدام الأقنعة، لكن ليست كموضوعات للوحاتهم، بل عكسوا الأمر على طريقة القاعدة الصحفية التي تقول: حين تكتب في الجريدة خبراً يقول (عضَّ كلب رجلاً) فهذا لا يُعَدُّ خبراً، لكن حين تكتب (عض رجل كلباً) فهذا هو الخبر المثير الذي يجذب الناس لقراءة الصحيفة. وهكذا أخذ هؤلاء الرسامون بوضع الأقنعة على وجوههم بدلاً من رسمها في لوحاتهم، وهم يقومون بذلك أثناء الرسم وفي أفتتاحات معارضهم وعند الإدلاء بحديث صحفي أو أثناء اللقاءت التفزيونية أو حتى عند مخاطبة الجمهور، لم ينزعوا الأقنعة عن وجوههم أبداً، وها هو معرضهم الجديد بمناسبة مرور ثلاثين سنة على تأسيس هذه الجماعة، وهم طوال كل هذه السنوات الماضية يخفون ملامحهم خلف الأقنعة، ولم يتعرف أحد على هوياتهم حتى بعد أن ملأت شهرتهم الآفاق وإمتدت من هولندا الى البلدان الأخرى. ويقول مؤسس المجموعة الذي أطلق على نفسه إسم دييو (أردنا أن نطيح بغرور الفنان وحضوره الشخصي المتكلف في أغلب الأحيان، نريد أن نكون متساوين مع الجمهور، نحن والجمهور واحد. فليس مهماً مَنْ الذي قامَ برسم هذه اللوحات أو تلك، بل المهم، هل هي ذات قيمة حقيقية أم لا؟).
أطلقَ هؤلاء الرسامون على مجموعتهم تسمية (تويزون)، بإعتبارهم يمثلون تياراً خاصاً في عالم الفن، وهذا ما يؤكده الإعلام الهولندي الذي أطلق عليهم تسمية (تويزم) على غرار سيريالزم أو كيوبزم. ومناسبة حديثي اليوم عنهم هو إقامة معرضهم الجديد ومناسبة مرور ثلاثين سنة على تأسيس الجماعة، وقد رسم هؤلاء الفنانين كل لوحاتهم وهم يضعون الأقنعة على وجوههم حيث لا يستطيع الناس معرفة أشكالهم الحقيقية أو ما يشير الى هوياتهم. ورغم رسم لوحاتهم أمامَ أعين الناس في الغالب، لكن لا يمكن لأحد التعرف عليهم. وفي معرضهم الجديد الذي يقام هذه الأيام، مازال هؤلاء الشبان يخفون وجوههم وقد أصبحوا أكبر سناً وتغيرت ملامحهم بالتأكيد، يمضون برسم هذا المشهد التشكيلي النادر، وينتجون لوحاتهم الخاصة المليئة بالألوان الصريحة والأشكال الخيالية الغريبة والخطوط المتداخلة التي تحمل إيقاعات وتناغمات تبدو موسيقية، حيث ينظر الكثير من المتابعين الى أشكالهم كما لو كانت كائنات خرافية غريبة أو حيوانات ليس لها وجود في عالمنا، وهذا ما يزيد من غموضهم ويُكثر من فضول الناس لمعرفة حقيقتهم، ومتى ترفع أقنعتهم ويظهرون للعلن.
تأسست هذه الجماعة سنة ١٩٩٢ في مقاطعة درينته الهولندية، وهي تضم الآن عشرين رساماً، ويمكن لستة فنانين جدد الانضمام لهذه المجموعة، ليكون العدد في النهاية ٢٦ عضواً، ويشرح مؤسس المجموعة ذلك قائلاً: نريد أن نكون في النهاية بعدد الحروف الأبجدية، وكل فنان يختار حرفاً ويبني عليه إسمه الجديد الذي سيختاره لتوقيع لوحاته، وغالباً ما يكون إسماً وهمياً ليس له وجود، لا إسم قديم بيننا وليس هناك عضو واضح الملامح للجمهور والصحافة. هكذا كبرت هذه المجموعة وشاعَ تأثيرها، مثلما كبرَتْ التساؤلات حول هؤلاء الرسامين غريبي الأطوار.
في كل معرض جديد لهم، يقضي أعضاء الجماعة قرابة ستة أشهر معاً لإنجاز لوحاتهم الجديدة، ويكون ذلك عادة في مكان واسع ويمكن للجمهور والمتابعين التجول بينهم أحياناً، مع ذلك ظلّوا يضعون الأقنعة وهم ينهمكون برسم لوحات معرضهم الجديد. الفن المختلف يثير الأسئلة دائماً، كما فعل هؤلاء الفنانون الذي تعرفت عليهم قبل سنوات، حين طبعت دار نشر بروموتسي أدفيس كتاباً فيه مختارات من لوحات فناني هولندا، وقد نُشرت فيه واحدة من لوحاتي، في حين تصدرت واحدة من لوحات هذه الجماعة غلاف الكتاب. غرائب الفن والفنانين لا تتوقف، مثلما تتعدد طرق إنجاز اللوحات وطريقة عرضها، كذلك تتغير هيئة الرسام وشخصيته وطريقة تواصله مع الناس