ستار كاووش
تمنحنا الطبيعة كل يوم، درساً من دروسها الفريدة، وَتُرينا في كل مرة، واحدة من لمحاتها الفاتنة التي تقربنا منها أكثر وأكثر. الطبيعة هي الأم، وهي أصل الجمال والإكتشافات. بالنسبة لي لا أعرفُ شيئاً في حياتنا أكثر عمقاً وجمالاً وعظمة من الطبيعة.
فلا شيء يضاهي هذا الضوء الذي يغمر أرواحنا أو تلك اليقظة التي تَبِثُّ الخدر الجميل في حواسنا. يا للطبيعة الأم وهي تفتحُ ذراعيها لنا كي ننهل من عظمة الأشكال والألوان وتدرجاتها التي لا تنتهي. في الطبيعة نتلمس التفاصيل الصغيرة التي كونها الحجر أو أنشأها غصن شجرة في مكان بعيد، أو ما تتركه عوامل التعرية من أشكال لا حصر لها، أو حتى عوامل التراكم وغيرها من الأدوار التي تتناوب على الطبيعة وهي تمتد لملايين السنين. هكذا تُعيد الطبيعة للنظر قوته وللبصر معناه، بعد أن تَمد يدها بكرم وتضع بين أيدينا نماذج وتركيبات نادرة من الفتنة والإنسجام والقوة.
لكن كل هذا الخلود والجمال الذي يتدفق من روح الطبيعة، يمكن أن يمرَّ مروراً عابراً إن لم تكن هناك عيناً جميلة تلتقطه وتسلط الضوء عليه، لأن فتنة الطبيعة بحاجة الى من يمسك بها ويتحسس عظمتها، تحتاج الى قلوب شغوفة وأرواح مضيئة وأيدي رهيفة تربتُ عليها بحنو وألفة. وهناك الكثير من المبدعين، إستطاعوا فعل ذلك من خلال التوائم مع الطبيعة والإنسجام مع موجوداتها، ويبرز بينهم الفنان البريطاني أندي جولدسورثي، الذي توحَّدَ مع الطبيعة ومفرداتها بطريقة شاعرية فريدة، حتى بدا متواشجاً معها ومغموراً بعطرها وأشكالها وما تشير اليه. حيث إمتلك هذا الفنان عيناً حساسةً وروحاً متطلعةً وصبراً قلَّ مثيله، يُضاف الى ذلك شغف تصميمي وموهبة مشبعة بمسحة غرافيكية. يخرج هذا الفنان يومياً متجولاً بين أحضان الطبيعة، باحثاً عن إنسجامات معينة تُنبيء بها هذه الشجرة أو تلك الصخرة، هذه البقعة التي إمتلأت بسيقان النباتات الجافة أو حتى تلك المساحة الفارغة التي إفترشتها الرمال. لا حدَّ لإكتشافاته ولا توقف لخطوات الجمال التي يصنعها خياله، وهو يطلق ساقيه للريح، ومع خطواته تنطلق موهبته المُنفتحة ويعمل ذهنه التركيبي، حيث يمسك بالأشياء المتناثرة هنا وهناك، ويجد مرادف جمالي لكل شيء مُلقى عنوة في الطبيعة. الهواء الطلق هو ميدانه، وأصابعة هي الأداة التي يُكَوِّنَ بها أشكاله التي من فرط عمقها صارت بسيطة جداً وقريبة من كل الناس.
دَرَسَ هذا الفنان في أكاديمية برادفورد للفنون، لكن عمله في إحدى المزارع، أعاده للطبيعة التي أخذ يصنع منحوتاته وأعماله الفنية منها، وهو لا يهتم إن كانت أعماله سريعة الزوال أو باقية الى الأبد، فهو مَعنيٌ بصنع الجمال، وكل شيء زائل في النهاية، وكلما صنع عملاً، إنتقلَ منه الى عمل جديد آخر، فليس هناك ثبات ولا تردد. ألم تشرق الشمس ثم تغيب في نهاية اليوم، ليتجدد ضوءها لنا في كل مرة؟ أليسَ الإبداع هو إضاءة النصف المعتم من القمر؟ هكذا يضيء هذا الفنان الحساس مناطق تبدو معتمة لنتمتع بإنسجامات الأشكال وعلاقات الخطوط وتشعبات الأثر. هناك نوع من الروحانية والتأمل في أعمال هذا الفنان، ويمكننا إختصار كل ما يقوم به بكلمة واحدة هي (الإنسجام) فهو يعرف كيف يَصِفُّ أحجار الطريق ليصنع منها شكلاً لزهرة مثلاً، أو يتنبأ بالنتيجة التي تكونها بضعة مئات من أوراق الاشجار إن رُتِبَتْ بطريقة معينة. عينُ لا تكف عن التواصل مع الطبيعة، وأصابعه كإنها جزء من أغصان الشجيرات التي يظفرها مع بعضها لتكون النتيجة هيئة غرائبية أو شكل طوطمي خاطته الطبيعة لتذكرنا بتلك التجمعات التي كانت تعيش في العراء ملتحفةً الطبيعة. في هذه البقعة المنعزلة ينتهي الفنان من إبتكار أشكال لولبيه تشبه تعاويذ الأقوام البدائية، وفي تلك المنطقة يجعل إنعكاسات الأشكال على الماء مُحَمَّلَة بنوع من الغموض والخيال. الغابات هي مكانه المفضل، وما يتساقط من الأشجار أو ما يقبع من أحجار قرب السواحل هي مفردات عمله في الغالب، وهو يعتمد في بعض الأعمال على تكرار مفردة معينة مئات المرات ليصل من خلال ذلك الى التعبير المناسب الذي يبحث عنه. أنظرُ الى ما يقوم به هذا الفنان، وأتخيلهُ الحفيد الحقيقي لسكان الكهوف القديمة، أولئك الذين كانوا يرسمون الحيوانات والطبيعة داخل كهوفهم للسيطرة عليها، لكن هذا الحفيد خرج من الكهف ليصبح هو والطبيعة عنصراً واحداً، تركَ أسلافه في عتمة الكهوف وخرجَ فاتحاً ذراعيه للضوء، ومحتضناً الطبيعة التي ضمتهُ بين ذراعيها.