لطفية الدليمي
لو سألْنا أي شخصٍ على درجة معقولة من الثقافة العامة: ماالتوصيف الإقتصادي الذي تراه مناسباً لعصرنا؟ أظنّه سيسارعُ في القول:
إنه الرأسمالية بكلّ تأكيد. وقد يستفيضُ بعضهم في الجواب فيضيفُ أنّ الآيديولوجيا الليبرالية هي الذراع السياسية للرأسمالية، وأنّ الأسواق الحرّة واليد الخفية التي تحدّث عنها جوزيف سمث إن هي إلا بعضُ أدوات الرأسمالية، وأنّ ميكانيكية التوازن الذاتي للأسواق الحرة هي الآلية التي تناظرُ فعل الطبيعة في بلوغ حالة التوازن لكلّ الفعاليات الطبيعية العديدة بما فيها فعاليات الكائن الانساني. الأسواق الحرة – بموجب هذا المفهوم – هي شيء أقربُ إلى الكينونة البيولوجية التي تعلمُ كيف تعدّلُ ذاتها بذاتها ؛ أي بمعنى آخر أنها نظام ذاتي التصحيح Self – Correcting System . سيعلنُ البعض القليل من الاشخاص، بلهجة ظفر طافحة بالنشوة، أنّ إكليل الفوز بات معقوداً للآيديولوجيا الليبرالية والرأسمالية الإقتصادية والأسواق الحرة. ألم يكتب فرانسيس فوكوياما عقب تهاوي الاتحاد السوفييتي السابق عن نهاية التاريخ، وأنّ نموذج الكائن الليبرالي هو آخر نموذج يمكن أن تتاح له فرص الاستمرارية والديمومة؟
لو شئنا الحقيقة فسنقولُ أنّ إجابات هؤلاء جميعاً خاطئة بنسبة 100 % !! عصرنا هذا ليس عصر الرأسمالية ؛ إنه عصرُ (النيوليبرالية Neoliberalism) التي أراد لها بعضُ المنظّرين (من أمثال فريدريك فون هايك و ميلتون فريدمان) أن تكون الوريثة الشرعية – وربما حتى الوحيدة - للرأسمالية، وفي هذا الفعل إفتئاتٌ كبير لأسباب كثيرة، منها:
1. الرأسمالية ذات جذور فكرية لاهوتية بروتستانتية قائمة على فكرة الخلاص الفردي المقترن بضرورة العمل والانضباط والإخلاص في المسعى الفردي (وهذا ماجعله العالم الإجتماعي المعروف ماكس فيبر ميداناً بحثياً لكتابه الرائع الاخلاقيات البروتستانتية وروح الرأسمالية).
2. ثمّ أنّ الرأسمالية كانت دافعاً لحفز البحث العلمي وتطبيقاته التقنية في مرحلة الثورة الصناعية الأولى.
3. ثمة أمرٌ آخر: الرأسمالية ليست شكلاً واحداً له خصائصه المميزة ؛ بل الأصحُّ هو الحديث عن رأسماليات متعددة. لايمكن أن نقبل بالتكافؤ بين نموذج الرأسمالية الأمريكية و نموذج رأسمالية دولة الرعاية الإجتماعية في الدول الاسكندنافية ؛ بل الحقُّ أنّ نظام دولة الرعاية الاجتماعية ينطوي على جوانب لم تستطع الدول الشيوعية توفير مثيل لها.
4. شاعت في أعقاب كارثة الكساد الكبير (1929 – 1932)، وبخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، تطبيقات واسعة للسياسات الاقتصادية الكينزية في سياق ماسمّي (الصفقة الجديدة The New Deal) – تلك السياسات التي تدعو إلى تدخّل واسع النطاق للدولة وبالضد تماماً من سياسة الأسواق الحرة المنفلتة.
إذن ثمة فرق كبير بين الرأسمالية والنيوليبرالية، وأظنُّ أنّ الكثير من موبقات النيوليبرالية صارت تلقى على أكتاف الرأسمالية جزافاً ومن غير تفكّر ؛ لذا فإنّ كِتاباً يتناولُ النيوليبرالية في صعودها وانكفائها سيكون مرغوباً به وضرورة لازمة في الوقت ذاته.
* * *
مع نهاية الحرب الباردة كتب العالم السياسي فرانسيس فوكوياما مقالته الشهيرة التي نالت احتفاءً واسعاً، وقد جاءت بعنوان «نهاية التأريخ». يجادل فوكوياما في مقالته تلك بأنّ تهاوي الشيوعية أزاح العقبة الأخيرة التي كانت تقف حاجزاً أمام مضي العالم بأكمله في مساره الطبيعي المتجسّد في الديمقراطية الليبرالية واقتصاديات السوق الحرّة، وقد حازت رؤية فوكوياما قبول الكثيرين في شتى بقاع العالم.
تبدو الرؤية الفوكويامية في يومنا هذا غريبة وساذجة، وبخاصة بعد أن بتنا نواجه انكفاءً من جانب النظام العالمي الليبرالي المحكوم بالقواعد المعزّزة للأسواق الحرّة ؛ لكنّ هذه الحالة هي ذاتها التي راحت تعزّزُ المذهب الاقتصادي النيوليبرالي الذي تغوّلت مفاهيمه وتعاظمت سطوته على مدى الأربعين سنة الماضية. إنّ مصداقية الإيمان الأعمى الذي تبديه النزعة النيوليبرالية بشأن كون الأسواق غير المقيّدة هي الطريق المؤكّد نحو تحقيق الرفاهية العالمية المشتركة غدا أمراً مشكوكاً فيه، حتى بات من الضروري وضعه على جهاز إنعاش الحياة ! وحسناً أنّ الأمر انتهى إلى هذا المآل غير الطيّب ؛ بل هو الصواب الذي كان يتوجّب فعله منذ زمن أبعد من يومنا هذا. إنّ انخذال الثقة وتراجعها المتزامن في كلّ من النيوليبرالية والديمقراطية ليس محض واقعة تصادفية، أو ارتباط عابر، لأنّ النيوليبرالية قد عملت على التقليل من شأن الديمقراطية وتوهين شأنها على مدى أربعين عاماً.
نختبرُ اليوم النتائج السياسية لهذه الخديعة الكبرى: انعدام الثقة بالنخب السياسية، وكذلك في «العلم» الاقتصادي، الذي تأسّست عليه هياكل السياسات النيوليبرالية، كما تعاظمت مظاهر العداء تجاه المنظومة السياسية المغمّسة بالفساد المالي، التي جعلت السياسات النيوليبرالية أمراً مطبّقاً على أرض الواقع. الحقيقة الصارخة تقولُ إنّ الحقبة النيوليبرالية، وبصرف النظر عن توصيفها، كانت بعيدة للغاية عن أن تكون ليبرالية ؛ فقد فرضت نمطاً فكرياً أرثوذوكسياً (أصولياً) لم يُبدِ أوصياؤه والمنافحون عنه أي تسامح تجاه أي انشقاق ممكن عنه، وقد عومل الاقتصاديون ذوو الرؤى الهجينة كما لو كانوا هراطقة لا يستحقون سوى النبذ أو – في أفضل الأحوال – الانكفاء بين جدران بضع مؤسسات معزولة. النيوليبرالية بهذا المعنى والتوصيف حملت القليل من تمثّل معايير (المجتمع المفتوح) التي دافع عنها كارل بوبر، وقد أكّد جورج سوروس (أحد أكابر أساطين المال العالميين) في هذا الشأن على أنّ بوبر عدّ مجتمعنا الحالي منظومة معقّدة دائمة التطوّر بكيفية تضمن أننا كلّما تعلّمنا أكثر فإنّ معرفتنا المستزيدة تغيّرُ في سلوك المنظومة (أي المجتمع )، وهذا ما عجزت النيوليبرالية عن الإيفاء بمتطلّباته، وأبدت إزاءه نكوصاً متفاقماً.
* * *
يقدّمُ لنا المؤرخ والأكاديمي الأمريكي، أستاذ التاريخ الأمريكي في جامعة كامبردج، غاري غيرستل Gary Gerstle (المولود عام 1954) قراءة دقيقة لموضوعة تاريخ النيوليبرالية في كتابه الصادر في نيسان (أبريل) 2022 عن جامعة أكسفورد بعنوان:
صعودُ وانكفاء النظام النيوليبرالي: أمريكا والعالَم في حقبة السوق الحرة
The Rise and Fall of the Neoliberal Order: America and the World in the Free Market Era
حقق الكتاب مرتبة أفضل المبيعات، وهو يستحق هذه المرتبة بكلّ جدارة.
الجميل في الكتاب هيكليته البسيطة التي يلحظها القارئ في محتوياته، والتي تجعله على الفور يحدسُ الخطّ الزمني لتطوّر النظام النيوليبرالي. يبدأ المؤلف كتابه بمقدمة متقنة أوضح فيها على مدى مايقربُ من عشرين صفحة الجذور الفكرية للنيوليبرالية. يقسّم المؤلف كتابه بعد المقدمة على جزئين: يتناول في الجزء الأول نظام الصفقة الجديدة الذي إمتدّ في السنوات 1930 – 1980 وانتهى مع نهاية حقبة الرئيس كارتر ومجيء الرئيس ريغان ؛ اما الجزء الثاني من الكتاب فيتناول فيه المؤلف النظام النيوليبرالي الذي إمتدّ في السنوات المحصورة بين 1980 و 2020، ويُفرِدُ له المؤلف ستة فصول تناول فيها بدايات النظام، وارتقاءه، وانتصاراته، واخفاقاته الكارثية، وتشظّيه، ومن ثمّ نهايته المحتومة. يمتاز الكتاب بهوامشه الكثيرة وكثافة توثيقه وإحالاته المرجعية التي شغلت حوالي 100 صفحة من الكتاب، وهي صفحاتٌ كثيرة إذا علمنا أنّ الكتاب بأكمله يقعُ في 393 صفحة.
ربما من النادر أن يوصف كتابٌ بأنه “ مرجعي “ وبخاصة إذا ماكان قد نشِر حديثاً ؛ لكنّ كتاب غيرستل يستحقُّ هذا الوصف تماماً ؛ فهو يقدّمُ النيوليبرالية “ من حيث أنها أسواقٌ حرة مطلقة اليد في الحركة، وانتقال حر لرأس المال والبضائع والناس، وإلغاء كل الضوابط التنظيمية، وإعلاء شأن العولمة “ في سياق تاريخي يمتدُّ على مدى زمني يقارب المائة سنة، وهذا مسعى لابدّ منه إذا شئنا فهم السياسات الحالية والكيفية التي جعلتنا ننتهي إلى الوضع العالمي الحالي على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية والعالم بأكمله. يقدمُ المؤلف – فضلاً عن سياحته الفكرية التي إمتدت على قرن من الزمن – صورة بانورامية للعلاقات السياسية والاقتصادية والتوجهات الاجتماعية المشتبكة خلال ذلك القرن ؛ الأمر الذي لابدّ منه لفهم الوضع الاشكالي التي إنتهت إليه أمريكا، وهو وضعٌ يلقي بظلاله – بالضرورة – على مجمل الوضع العالمي. يقدم المؤلف في الوقت ذاته توقعاً بالحالة المستقبلية التي ستمضي إليها أمريكا والعالم.
أحدُ الأفعال المفيدة الي أقدم عليها غريستل في كتابه أنه يدفع القارئ دفعاً لتقويض التعريفات الكلاسيكية الراسخة للنزعة المحافظة Conservatism والنزعة الليبرالية Liberalism في الشأن الاقتصادي الأمريكي على أقلّ تقدير. المثال في هذا الشأن واضح تماماً: كان الرؤساء رونالد ريغان وثنائي بوش (الأب وإبنه) جمهوريين محافظين؛ في حين كان الرؤساء بل كلينتون و باراك أوباما ديمقراطيين ليبراليين ؛ لكنهم جميعاً كانوا نيوليبراليين متى مااختصّ الامر بتوصيف سياساتهم الاقتصادية. النيوليبرالية في نهاية المطاف سياسات إقتصادية وليست آيديولوجيا سياسية، وبهذا فهي تتمايز جوهرياً عن الرأسمالية وتمظهراتها السياسية المتمثلة في الآيديولوجيا الليبرالية.
تمثلُ قراءة خط التطور الفكري والعملي للنيوليبرالية مسعى مطلوباً لفهم عالمنا المعاصر: سيفهم القارئ كيف أنّ عقوداً من ترك الأسواق الحرة بلا سياسات تنظيمية أدّت إلى الأزمة المالية العالمية عام 2008 ومن ثمّ صعود التيار الشعبوي المتمثل برئاسة دونالد ترامب. سيفهم القارئ أيضاً بعضاً من المفردات الاقتصادية بالغة الضرورة مثل السياسات الكينزية ومابعد الكينزية، واتفاقيات برتون وودز، وسيعرف ظروف نشأة كلّ من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، كما سيتعرّف على أسماء إقتصاديين كبار كانوا فلاسفة النيوليبرالية الاوائل، مثل: فريدريك فون هايك و لودفيع فون مايسز.
من المفيد في نهاية هذه القراءة الموجزة الإشارة إلى مسألتيْن:
الأولى: فهم السياسات النيوليبرالية ضرورة لازمة لكلّ فرد مثقف لأنّ وضعنا الحالي إنما هو بعضُ نتاج هذه السياسات. وحتى لو كنا على أعتاب عصر مابعد النيوليبرالية فإنّ فهم النظام النيوليبرالي سيكون ضرورة محتمة لمعرفة شكل المستقبل البشري القادم في نطاق السياسات الاقتصادية الأفضل للبشر والبيئة.
الثانية: الكتاب غير مترجم إلى العربية لكونه حديث الإصدار، ولو شاء القارئ باللغة العربية كتاباً مترجماً إلى العربية فيمكنه الإستعانة بكتاب (الوجيز في تاريخ النيوليبرالية) لمؤلفه (ديفيد هارفي ) وهو كاتب موسوعي ممتاز ذو إمتدادات معرفية واسعة ؛ لكن كتابه ليس بديلاً كاملاً عن كتاب (غريستل).