د. نادية هناوي
للشاعر فوزي كريم دوران في موضوعة التجييل العقدي، الدور الأول جاء طارئا بشكل عفوي وغير مقصود يتزامن مع إعلان البيان الشعري عام 1969،
موقعا عليه ومتطامنا بالصدفة مع شعراء البيان الآخرين: فاضل العزاوي وسامي مهدي وخالد علي مصطفى. والدور الثاني كان بعد مضي أكثر من ثلاثين عاما لكنه جاء مقصودا وغير تطامني وعلى نية المواجهة العلنية مع شاعرين كانا زميلين والآن صارا غريمين هما فاضل العزاوي وسامي مهدي. وتمثلت تلك المواجهة في المضاهاة نقديا لهما بكتابين هما(ثياب الإمبراطور)2000 و(تهافت الستينيين)2006 كرد فعل على كتابيهما(الموجة الصاخبة) و(الروح الحية) مناقشا موضوعة التجييل العقدي بقصد تسفيه تنظيراتهما لشعراء الستينيات.
والسبب وراء إدلاء فوزي كريم بدلوه في قضية التجييل العقدي ومحاولته المساهمة في التنظير لها يكمن في رغبته في منافسة الشاعرين الغريمين اللذين ما ذكراه في كتابيهما إلا بما هو فاتر وسلبي. واتخذ تنافسه معهما أشكالا متعددة، منها الاستدراك على طروحاتهما بالضد منهما، ومنها المؤاخذة والمجادلة التي عززها ما لديه من معرفة بالآداب الغربية وفلسفاتها التي صار محتكا بها أكثر بعد استقراره في لندن مفيدا من إتقانه اللغة الانجليزية في الاطلاع على آخر الكتب والدارسات المهمة في هذا المجال.
أما الجيلية والانتماء إليها فلم يفندها بل دافع عن التجييل العقدي لأنه أي التجييل هو الذي رسخ اسمه وكان البيان الشعري احد العوامل في هذا الترسيخ الى جانب تجربته الشعرية في حركة الحداثة. وما يميز أسلوب فوزي كريم سواء في الاستدراكات أو المؤاخذات أنها اقرب إلى التفلسف الفكري منها إلى التنظير الأدبي وهو دائم التمثيل بالفلسفة الغربية مستعرضا ثقافته فيها، محاولا أن يكون منظرا للجيلية والشعرية وفي الوقت نفسه المفكر المدلل على مساوئ الالتزام الايديولوجي ومحاسن الانعتاق منه.
وعلى عكس كتابي(الموجة الصاخبة) و(الروح الحية) لم يكن كتاباه (ثياب الإمبراطور) و(تهافت الستينيين) مخصوصين في موضوعة التجييل وحده بل معها موضوعات أخرى تتوزع بين النقد الشعري والدراسة الثقافية.
وما هو غريب في منهجية فوزي كريم، هذه القصدية في التضاد ما بين التمسك بالجيلية الستينية وبين وصف (الستينيين) قاطبة بالتهافت والاستعلائية. وليس مراده من هذا التضاد الدفاع عن هذه الجيلية بقدر النكاية بالشاعرين المؤسسين لها اللذين قللا من أهمية دوره فيها، مما ولّد في داخله ردة فعل قوية جعلته يشعر بضرورة الرد على منظري التجييل العقدي سامي مهدي وفاضل العزاوي.
ولا يوصف كتاب(ثياب الإمبراطور) بأنه تنظير في التجييل العقدي لكن المؤلف وهو يمركز موضوعة الحداثة الشعرية في شكلها الأول الحر وفي شكلها الثاني التطويري، مال في آخر دراسة فيه وعنوانها(مرايا حداثة الستيني: حوار حول الحداثة وقصيدة الشعر الحر) إلى تأكيد أهمية هذه القضية موجها القارئ إلى الغاية الأساس وهي توكيد حقيقة وجود جيل تشكل خلال عقد الستينيات، وناقش هذا التشكيل لكن بالضد من الطريقة التي ناقشها كل من فاضل العزاوي وسامي مهدي من خلال طريقتين:
الأولى/ انقلابية: تقصد فيها مساءلة فاضل العزاوي حول القارة الفائرة التي طرحها في (الروح الحية) موجها إليه تساؤلات كثيرة هي بمثابة تمهيدات بنى عليها قاعدة التشكيل الجيلي. وكان قصد فوزي كريم تفنيد ما أدعاه العزاوي في الشاعر الستيني من طليعية وحيرة وتفكر وارتياب.
الثانية / المراوغة والخداع: في تغليب الفن على الموضوع والتي ولّدت بحسب فوزي كريم مفارقة ساهمت في تعميق الهوة بين الفن والتجربة. وأساس المراوغة هذا التحليق اليوتوبي بعيدا عن الواقع الحقيقي المشحون بالماسي اما الخداع فهو في اكتراث الشاعر الستيني بالحداثة من دون الرغبة في استعادة الموروث بروح نقدية.
وبالمراوغة والخداع يكون فاضل العزاوي من دعاة القطيعة مع جيل الرواد(نازك والسياب) ومع من ألغى من الشعراء في اتجاه القصيدة الحديثة. وهذه القطيعة تعني ان هناك ريادة بديلة يجدها العزاوي تتجلى في الشعر العربي الجديد. ويؤاخذه فوزي كريم على ما تقدم بأمرين: الأول ان فاضل لم يذكر اسما واحدا لهذا الشعر الجديد والثاني أن قوة الإلغاء التي يتحدث عنها هي نفسها قمعية الأعلام بـ(مفردات تنتسب عادة لأدبيات الإعلام القمعي وأولها مفردة الخيانة فلقد تكررت أكثر من مرة في مقالات فاضل.)ثياب الامبراطور،ص307
وبمجيء هذا الوصف بالخيانة في خضم التوصيف بالمراوغة والخداع يكون فوزي كريم قد دسَّ بغضه وأعلن عن نقمته بشكل غير مباشر وهو يستشهد بقول لأحد شعراء التجييل هو عبد القادر الجنابي ينقله من كتابه(انفرادات) ومفاده أن(ثمة من خانوا جيلهم أيضا بهذه الطريقة أم تلك في فترة تالية..وما من جيل تعرض إلى الخيانة كما تعرض له هذا الجيل..الشعر الخائن الذي يعرض نفسه في سوق النخاسة)
وخارج إطار هاتين الطريقتين فان هناك مواضع أخرى نلمس فيها مثالب جديدة، حتى كأن هذا الكتاب مكتوب من أجل النيل من فاضل العزاوي بوصفه هو المخصوص بهذه المثالب وأولها وهمه بالحداثة وهو يدافع عن قصيدة النثر. وفي الوقت الذي لا يتنازل فيه فوزي كريم عن كرسي التجييل العقدي والتربع على عرش الشعرية الستينية، فانه أيضا لا يتوانى من تسفيه تنظيرات فاضل العزاوي للتجييل العقدي وتفنيد ادعاءاته مرة بالانتحال ومرة ثانية بالاستحالة ومرة ثالثة بالغرابة.
وعلى الرغم من أن فوزي كريم يعد نفسه شاعرا ينتمي إلى جيل جديد (ستيني) مؤمنا بحقيقة ان العقدية تولد أجيالا شعريا، فانه في كتابه(تهافت الستينيين) بدا ناقما اشد النقمة على الشاعرين سامي مهدي وفاضل العزاوي. وصحيح انه كان في كتابه السابق(ثياب الإمبراطور) حانقا عليهما ايضا لكنه في (تهافت الستينيين) بالغ في الحنق والازدراء.
ومن يتمعن في الكتاب لاسيما مقارنات المؤلف بين ستينيات روسيا والعالم الغربي في القرن التاسع عشر وستينيات العراق في القرن العشرين، فسيدرك ان إعلان النقمة لا تقتصر على ذينيك الشاعرين بل تتجاوزهما إلى الثقافة العراقية في تلك المرحلة عموما. وأحيانا يتخذ تنفيس فوزي كريم عن حنقه شكل جلد الذات مقاربا حال كل مثقف عراقي بشاتوف بطل رواية(الشياطين) لديستويفيسكي. وإذ نستغرب من هذا الموقف فلأن قراءة الكتب المترجمة كانت هي السمة التي بها تفاخر الستينيون وعدوا أنفسهم مميزين ومتفردين وشامخين إلى درجة أنهم ـ وفوزي كريم واحد منهم ـ شعروا أنهم جيل لوحدهم.
وقد تبدو هذه الرؤية الاستلابية في وصف الستينيين عامة لكن الخصوصية فيها تتكشف مع التقدم في قراءة تحليلاته الاجتماعية وتشخيصاته النقدية لاسيما تلك التي بها يلصق التهافت بالشاعرين سامي مهدي وفاضل العزاوي. وهذا التهافت هو في الأساس امتداد لما طرحه فوزي كريم في بعض مقالات كتابه(ثياب الإمبراطور) لكن مع حدة أكثر هذه المرة في التسفيه والرغبة الدفينة في تصفية الحساب.
وإذا رصدنا موقفه من الشاعر سامي مهدي فلن نجد سوى المؤاخذات بوصفه الشاعر والسياسي المتسلط، من قبيل قوله:(يكتب سامي مهدي في تاريخ هذه المرحلة ليؤكد ان الأكثرية من كتاب الستينيات كانت تنتمي لتنظيمات حزبية وإنها منيت بانتكاسات سياسية نفسية لم تؤد بهم إلى مراجعة النفس والحكمة بل إلى ميول وأهواء فكرية أكثر تطرفا)تهافت الستينيين، ص13
وإذا كان فوزي كريم يعلم أن في سامي مهدي ذلك كله، فلماذا إذن وقّع معه على البيان الشعري وزامله وعمل معه في هيأة تحرير مجلة شعر 69 خلال مدة صدورها الذي لم يتجاوز العام؟
قد يكون للصدفة دور في تلاقيه مع شعراء البيان، ولعل فوزي كريم لم يكن على علم بخفايا لم يعرفها إلا فيما بعد وربما كان لفاضل العزاوي أثر عليه بحكم ما كان له من منزلة صحفية وشعرية أيضا. ومهما تعددت الأسباب فان موقف فوزي كريم من سامي مهدي أو فاضل العزاوي يبقى مفهوما في إطار التنافس معهما على التنظير للتجييل العقدي كقضية امن بها الثلاثة ودافعوا عنها ليس بالإعلان عن البيان حسب بل بالعدوى التي أصابت غيرهم من الشعراء العراقيين أيضا من الذين جاءوا بعدهم وعبروا عن أنفسهم جيلا سبعينيا وجيلا ثمانينيا وهنا التفت منظرا التجييل الستيني إلى حقيقة هذا الذي أسساه والمستوى الذي بلغه ما بناه الآخرون على تأسيسهما فكان ان شرع سامي مهدي إلى نشر دراستين أو أكثر أواخر العقد الثمانيني ثم ضمهما مع موضوعات أخرى في كتاب(الموجة الصاخبة) 1994 هو الأول في التنظير للتجييل العقدي.
وشرع أدباء الستينيات خارج العراق بنشر شهاداتهم مطلع التسعينيات ومنهم فاضل العزاوي الذي جمع شهادته مع دراسات أخرى ونشرها في كتابه(الروح الحية) عام 2000 من هنا جاءت حماسة فوزي كريم للتنظير للتجييل فكان كتابه (تهافت الستينيين) 2006 أكثر باعا من كتابه الأول(ثياب الإمبراطور) في التصدي لقضية التجييل العقدي ومعها يواجه غريميه سامي مهدي وفاضل العزاوي ووصف الأخير بالحماسة الستينية.
وبعد كثير من المقاطع التي يستلها من(الروح الحية) ويجد فيها فبركة والتباسات ينتهي فوزي كريم إلى ان فاضل العزاوي لا يريد ان يعطي للشيطان حقه ويريد ان يلبي نداء جيفارا ويحرر العالم كله وانه الأكثر خيالا وهو يرى الناس والظواهر على نحو ما يتخيلهم. اما سامي مهدي فيرى تلك الفترة مظلمة لأنها لم تمنح المثقفين فرصة تجريب النظرية الثورية في الفعل الثوري الانقلابي.
ولكن ماذا عن موقف فوزي كريم من الشعراء الآخرين في هذه المرحلة؟ كيف عبّر عنهم في كتابه هذا؟ أكان يعد نفسه واحدا منهم أم ظل على رأس الجيلية العقدية بوصفه منظرا؟
ما كان لفوزي كريم أن يتخلى عن الجيلية الستينية وهو الذي عاد كي يثبت دوره فيها وينافح عن هذا الدور متصديا:
أولا/ بالنرجسية مفيدا من تاريخ تلك المرحلة العاصف بالحزبية وقوة الإعلام متعففا من ان يضع نفسه مع من زامله وكان في سنه في مرحلة التكوين والنضج ومتعاليا أيضا على شعراء سبقوه من عقدي الخمسينيات والأربعينيات. وقد لا نغالي إذا قلنا إن نرجسية فوزي كريم كانت أهم أساليبه في التجييل العقدي.
ثانيا/ الليبرالية التي تلقفها من الفلسفة الغربية المعاصرة ــ وبعض نصوص هذه الفلسفة لم تكن قد ترجمت إلى العربية وقت تأليف الكتاب ــ هي التي ساعدت في مده بأفكار ورؤى أفادته كثيرا في عقد مقارنات ما بين ستينيات العالم المتقدم وستينيات العراق فتأثر مثلا بما كتبه الفيلسوف البريطاني اشعيا برلين عن رواية(آباء وأبناء) لتورجنيف وما كتبه الفيلسوف الفرنسي ميووش عن رواية (الشياطين) لدستويفيسكي. وتأثر كثيرا بكتاب(خيانة المثقفين) للفيلسوف الفرنسي جوليان بيندا.