لطفية الدليمي
الثلاثون من أيلول (سبتمبر) من كلّ عام هو يوم الترجمة العالمي، ولابدّ أن يكون هذا اليوم مثار تساؤلات ومراجعات لدى كلّ من مارس صنعة الترجمة أو قاربها فكراً أو دراسة أو تاريخاً أو هواية.
حياة واحدة لا تكفي: تلك كانت عبارة الشروع الحافزة التي دفعتني لولوج عالم الترجمة بكلّ غواياته التي لم أزل أحسبها حتى اليوم عالمًا مسكونًا بالسحر والخيال والتوقعات المدهشة. كلّ كتاب شرعت - أو سأشرع مستقبلًا- في ترجمته هو (صندوق باندورا) عجائبي حتى لو كانت لي به معرفة مسبقة ؛ فخوض غمار الترجمة يَعِدُ دومًا بمفاجآت لا تنفكّ تدهشني وتدفعني لمواصلة العمل بطاقة عزوم لا تعرف الخذلان أو الانكفاء.
تقول أمثولة شائعة أنّ « من يرى ليس كمن يسمع « ؛ لذا فإنّ من يتحدّثُ عن العملية الترجمية - بكلّ حيثياتها المشتبكة - من داخل المشغل الترجمي ليس كمن يتحدّثُ حديثاً عاماً مطلقاً على عواهنه من غير مسؤولية أو مرجعيات عمل حاكمة.
الفعالية الترجمية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً مع اللغة التي نترجم منها (اللغة الأصل) وإليها (اللغة الهدف). اللغة هيكل إطاري يشكّل قاعدة لرؤيتنا المميزة للعالم: العربي مثلاً يرى العالم بطريقة تتمايز عن رؤية الانكليزي أو الفرنسي أو الألماني أو الياباني أو الصيني،،،. اللغة بهذا المفهوم حاملٌ لهذه الرؤية، وكلّ لغة جديدة نتعلّمها هي إعادة تشكيل رؤيتنا للعالم بسبب إعادة تشكيل أدمغتنا على المستوى البيولوجي الدقيق. وفقاً لهذا السياق ثمة إختلافات أساسية لايمكن إختزالها بين طرق التعبير عن فكرة واحدة في سياقات لغوية مختلفة ؛ وعلى هذا الأساس يجب أن نقبل بوجود إختلافات حتمية بين النصوص المترجمة. لاأحبّ الحديث عن (الخيانة الحتمية في فعل الترجمة) ؛ فهو ليس أكثر من تعبير درامي عن حقيقة أساسية، وبخلاف هذا الحديث لابأس من التأكيد على البديهيات التالية:
- البديهية الاولى: الترجمة تفاوض بين لغتين (كما يعبّر أومبرتو إيكو)، تتنازل فيه كلّ لغة عن شيء من كيانها التعبيري.
- البديهية الثانية: كلّ إنسان له لغته الوجدانية الخاصة التي لاتشبه أية لغة لإنسان غيره.
- البديهية الثالثة: الانسان الذي لايعرف سوى لغة واحدة يجهل حتى لغته الأم لأنه يفتقد المرجعيات التي يقارن بها – ومن خلالها – ثراء السياقات النحوية والدلالية غير التقليدية للغته الأم. هذا مايراه غوته.
- البديهية الرابعة: كل نصّ مترجَم هو نصٌّ موازٍ للنص الأصلي. فكرة المطابقة الترجمية وهمٌ خالص لأسباب جوهرية لاعلاقة لها بمدى إحترافية المترجم.
- البديهية الخامسة: كلّ نصّ مترجَمٍ يحملُ بصمة المؤلف والمترجِم معاً. لايمكن فكّ الاشتباك بين أي نصّ مترجَمٍ ومترجمه.
ثمة أيضاً موضوعة جوهرية هي في قلب كلّ فعالية ترجمية، أعني بها مسألة الثقة في المادة المترجمة. كيف السبيل إلى ذلك؟ سأقدّمُ جوابيْن لهذا السؤال: الأول عام يمكن أن نجد نظيراً له عندما يسأل أحدنا: كيف تثق بطبيب أسنانك؟ أو كيف تثق بأستاذك الجامعي؟ أو كيف تثق بأحد الباعة؟ نتداولُ كثيراً مثلاً يقول (التجربة أعظم برهان). جرّب وقدّرْ نتيجة تجربتك. لاأحسبُ أنّ من يغشّ أو يكذب يمكن أن يستمرئ اللعبة إلى مدى لانهائي. لابدّ أن تتكشف لعبته المعيبة في نهاية المطاف. سيقولُ بعضنا أنّ لكلّ مهنة أخلاقياتها وقوانينها الحاكمة ؛ لكنّ هذا لايكفي. الضمير الحي والنزاهة الشخصية خصائص ثمينة هي الفيصل النهائي في كلّ ممارسة بشرية. على هذا الأساس يمكن أن تقرأ نصوصاً مترجمة جرى تزكيتها من قبل كثرة من القرّاء ؛ لكنّ التزكية وحدها لاتكفي: لابدّ من معيار شخصي. هنا ننتقلُ إلى الجواب الثاني لسؤال: كيف نثق في الترجمة؟ وهذا الجواب ذو معيار إجرائي. جرّب أن تأخذ نصاً مترجماً وحاول مقارنته مع مرجعه الأصلي، وربما الأفضل (والأكثر سهولة) هو مقارنة مقالة مترجمة لمترجم ما مع نصها الأصلي. قلّب الترجمة من جميع جوانبها ودقّق في السياق الذي إعتمده المترجم وكيفية هيكلته للعبارة المترجمة. أدرُس السياق النحوي والدلالي للعبارة المترجمة ولاحظ مدى تصاديه مع روح العبارة الأصلية. لابدّ أن تبذل جهداً لكي تتأكّد من مصداقية ونزاهة عمل أي مترجم وإلا فليس من سبيل سوى الثقة المزكّاة من قبل أغلبية القرّاء والمتخصصين. سيكون من قبيل البداهة القولُ أنّ هذه المقاربة الإجرائية تتطلب معرفة مقبولة باللغة الأصل التي يترجم منها المترجم الذي يُرادُ التأكّد من دقّة عمله.