روزفلت مونتاس
ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي
القسم الأوّل
أظنُّ أن أغلب القرّاء الشغوفين، وبخاصة من محبّي أعمال الراحل جبرا إبراهيم جبرا، يتذكّرون ذلك العمل الذي ترجمه جبرا في سبعينيات القرن الماضي ونشره بعنوان (شكسبير معاصرُنا Shakespeare Our Contemporary).
لايُقرَأ الكتاب من عنوانه دوماً ؛ بل من الخطأ الجسيم الحدسُ بمضمون أي كتاب من خلال عنوانه فحسب. لم يكن الأمر هكذا مع ترجمة جبرا لكتاب المؤلف البولندي يان كوت ؛ إذ جاء العنوان ليمثل شاهدة مباشرة لما سيقرأه المرء في متن الكتاب: ليس شكسبير ذاك الذي مثّل شاهداً لعصره فحسب بل يمكن أن يكون ضوءً كاشفاً لعصرنا متى ماعرفنا الكيفية المناسبة لاستنطاقه في إطار فعالية دؤوبة نستطيع بمقتضاها جعل شكسبير عيناً إضافية لنا تعيننا في فهم عالمنا بطريقة تبدو معاصرة إلى حدّ يكاد المرء يظنُّ معه أن شكسبير هو أحد عظام المفكّرين في المعضلات الوجودية لعصرنا. يمثلُ شكسبير بموجب هذه الرؤية نمطاً من « الوعي الكوني Cosmic Consciousness « العابر لحدود الزمان والمكان والبيئات المحلية. كلّ العقول العظيمة تتماهى مع هذه الخصيصة الشكسبيرية.
أقدّمُ في المادة التالية القسم الأوّل من ترجمة لمقالة كتبها البروفسور روزفلت مونتاس ونشرها بموقع Aeon الألكتروني بتأريخ 21 كانون ثاني (يناير) 2022.
روزفلت مونتاس Roosevelt Montás هو أستاذ محاضر في قسم الدراسات الأمريكية والانكليزية بجامعة كولومبيا، ومدير برنامج الحرية والمواطنة التابع لقسم الدراسات الامريكية بالجامعة ذاتها. ألّف كتاب إنقاذ سقراط: كيف غيّرت الكتب العظيمة حياتي، ولماذا هي مهمّة لجيل جديد Rescuing Socrates: How the Great Books Changed My Life and Why They Matter for a New Generation. نُشِرَ الكتاب عام 2021.
الرابط الالكتروني للمادة:
https://aeon.co/essays/why-the-great-books-still-speak-for-themselves-and-for-us
المترجمة
عندما كنتُ طالباً في المرحلة الثانوية من الدراسة، وبكفاءة لم تزل متواضعة في اللغة الإنكليزية التي لم أكن قد تمرّستُ في أفانينها بعدُ، عثرتُ على مجموعة من حوارات أفلاطون في تلّ من القمامة يقعُ قريباً من منزلي في بلدة كورونا بحيّ كوينز النيويوركي. نشأتُ في بلدة جبلية في جمهورية الدومينيكان، وهاجرتُ إلى مدينة نيويورك قُبَيْل عيد ميلادي الثاني عشر ؛ إذ كانت أمّي قد سبقتنا في مغادرة جمهورية الدومينيكان قبل بضع سنوات، وعندما أمّنت لها العمل الوحيد الذي بمستطاعها أن تعتاش منه بأقلّ أجر ممكن (وهو العمل في مصنع لإنتاج الملابس) لم تتوانَ في إلتماس طلب إلتحاقي أنا وأخي بها. إلتحقنا أنا وأخي عام 1985 بمنظومة التعليم الخاصة بالمدارس العامة المكتظة بالطلاب إلى حدود كبيرة ؛ لكن برغم هذا الاكتظاظ أوفت وجبات الغداء المجانية في تلك المدارس بقسط كبير من حاجاتنا الغذائية وأبقتنا على قيد الحياة وإن في كفاف لاتخطؤه العين ؛ فقد كنّا – مثل كثرة من المهاجرين سوانا – فقراء بلا غطاء مالي، فضلاً عن أننا ماكنّا قد حدّدنا وجهاتنا اللاحقة في الحياة بسبب عدم قدرتنا على التكيف ومعرفة كيفية توجيه الأمور بدقّة وانتظام وحزم. كانت ظلالُ نشأتنا السابقة في الدومينيكان لم تزل تلقي بعبئها الثقيل علينا وتمنع عنا رؤية معالم الطريق غير المطروق في حياتنا النيويوركية الجديدة.
لم تكن حياتي كطالب مدرسة ثانوية آنذاك تبشّرُ بأية بداية ميمونة لما سأختصُّ به من مهنة مستقبلية كإداري أكاديمي وعضو قسم تدريسي في إحدى جامعات النخبة الأمريكية(1) Ivy League (يقصد جامعة كولومبيا، المترجمة) ؛ لكنّ مابدت رحلة منفّرة لي في بداية حياتي الدراسية تلك أصبحت، في مرحلة ما منها، أقلّ تنفيراً وإعاقة لي، ثم استحالت بداية لشروعي في رحلة ممتعة إستطعتُ فيها التأمل بهدوء وثقة في العالم الفكري والاجتماعي الذي وجدتُني فيه حينذاك. إستمدّ ارتقائي الفكري غذاءه من تعليم يستأنسُ البعضُ توصيفه بأنه تعليم يقوم على طول المعاشرة مع « الكتب العظيمة The Great Books “، وهو التعليم ذاته الذي جعلني على قدر غير يسير من الحساسية تجاه توجهات النقد الثقافي المؤثر نحو المُعتَمَد(2) The Canon – تلك التوجهات التي تؤكّدُ أنّ أعمال هوميروس وسوفوكليس وأفلاطون ومونتين وسرفانتس وغوته وهيغل ودوستويفسكي و (فيرجينيا) وولف،،،،، إلخ ليست أعمالاً موجّهة لشخوصٍ أمثالي ؛ بل هي أعمالٌ كُتِبت حصرياً للبيض، الأغنياء، المولودين بامتيازات طبقية لم أستطع إليها سبيلاً.
في تلك المجموعة من حوارات أفلاطون التي أنقذتها في ليلة شتائية من تلّ القمامة القائم قريباً من منزلنا في ضاحية كوينز في نيويورك، قابلتُ – عبر القراءة وحدها - رجلاً عجوزاً يعيشُ أيامه الأخيرة، يدعى سقراط، كان يجتهدُ في الدفاع عن نفسه تجاه إتهامات بإفساد الشباب. إعترض سقراط (كما قرأت في تلك المحاورات) على تلك الاتهامات الباطلة، وراح يخاطب مواطنيه الأثينيين:
يارجال أثينا... أشعرُ بالإمتنان، وأنا صديق لكم ؛ لكن برغم ذلك، وطالما كانت فيّ قدرة على تنسّم الهواء فلن أنكفئ عن الاشتغال في الفلسفة وحضّكم على التفكّر والمساءلة.... (وهنا يسألهم): ألاتشعرون بالخجل من أنفسكم وجشعكم في تملّك كلّ ماتستطيعون بلوغه من غنى وصيت وأوسمة نصر ونياشين فخار في الوقت الذي لم تكلّفوا فيه أنفسكم عناء التفكّر – ولو بفكرة عابرة – في الحكمة أو الحقيقة، أو في الحالة الفضلى الممكنة التي يمكن أن تكون عليها أرواحكم؟
في نهاية تلك المجموعة الحوارية نجد سقراط نزيل السجن في اليوم الموعود لإعدامه، ثم نشهده يتناول السم « بهدوء ويُسر «، ويضطجعُ محتضراً حتى يغادر الحياة. « هكذا كانت نهاية حياة رفيقنا «: هذا مايقوله السارد في تلك الحوارات، ثم يضيف « الرجل الذي سنقول عنه أنه كان الرجل الأكثر علماً بين كلّ من عرفنا، والأكثر حكمة واستقامة «. لم تكن لي حاجة حينها، وأنا أقرأ تلك الكلمات، لأن أكون غنياً أو ذا حظوة كبيرة وميزات ثقافية رفيعة لكي أجد في تلك الكلمات شيئاً كأنه كان يخاطبُ أعمق إحساساتي الشخصية. لم أكن في حاجة كذلك لأن أكون أبيض اللون أو أوربياً لكي تصيبني الدهشة وأنا أقرأ كلمات سقراط الحكيمة « إنّ حياةً لانُخْضِعُها للمساءلة ليست بالحياة التي تستحق عبء عيشها «.
* * *
إعتدتُ كلّ صيف، منذ عام 2009، أن أعرّف هذه الحوارات الأفلاطونية بشأن سقراط لأعداد متزايدة من طلبة المدارس الثانوية الذين ينتمون لعوائل تُصنّفُ بأنها ذات الدخول الأدنى في الولايات المتحدة، والذين يطمحون لأن يكونوا أوائل من يرتادون الكليات بين عوائلهم. كانت غايتي من تلك الفعالية أن أعرّف هؤلاء الطلبة على التقاليد السياسية والأخلاقياتية والفلسفية الرفيعة التي يمكن لأعمال سقراط وتضحيته أن تكون مصدراً ملهماً لها. شهدتُ سنة بعد أخرى الكيفية التي يرتقي بها طلبتي لمستويات رفيعة من الإمتحان الذاتي والمساءلة الشخصية لمتبنياتهم الاخلاقية والفلسفية، وفي كثير من الأحيان كانوا يجتهدون في إعادة توجيه دفة حياتهم بطريقة مخلصة ومستديمة وثابتة. لم يعُد طلبتي يرون في أرسطو وهوبز ولوك وكلّ الشخوص الفلسفية العظيمة التي ندرسها محض نصوص جامدة كتبها أشخاص غريبون عن البشر ؛ بل راحوا يرونهم مفكّرين يتحدّثون إليهم بصوت حي حول موضوعات ذات أهمية وراهنية كبرى هم في مسيس الحاجة إليها لكي يطوّروا خبراتهم الشخصية، ومرّة بعد أخرى بتُّ أشهدُ في هؤلاء الطلبة اليافعين إنفتاحاً على مصادر ثمينة للارتقاء الذاتي وإضفاء معنى على الحياة بعيداً عن المحدوديات المادية والضغوطات المالية التي لطالما حجّمت قدراتهم وأفقرت حيواتهم من قبلُ.
يمكنُ للقدرة التحريرية التي تحوزها الأعمال العظيمة المنضوية في « المعتمد « أن تضيع بسهولة وسط المتاهة النظرية التي تعجّ بها أقسام الإنسانيات الأكاديمية، وفي الوقت ذاته صارت مؤسسات التعليم العالي تُبدي قبولاً متزايداً للتخلي عن فكرة التعليم الحر Liberal Education القائم على فكرة التعلم من أجل التعلّم ذاته، وصارت ترجّحُ الدراسات الخاصة بالتعليم المهني والمتخصص ؛ لكن برغم ذلك لم تزل الكلاسيكيات القديمة تمتلك القدرة على التأثير في الأجيال الشابة وجعلهم يتخذون مسارات في حياتهم يعجز عن فعلها التعليم التقني. نحنُ هنا لانسعى للتقليل من الأهمية العملية والتطبيقية للتعليم التقني العالي والمتخصص ؛ بل أنّ كل مانبتغيه هو معاكسة النكران السائد لقدرة الأقسام الأكاديمية الخاصة بالانسانيات في كلياتنا وجامعاتنا على حفظ استمرارية زخم وحيوية التعليم الحر وأهميته في نشأة أجيالنا الجديدة.
حصل في سنتي الأخيرة في الكلية أن حضرتُ حلقة دراسية Seminar في الأدب المقارن، أدارتها أستاذة الأدب غياتري سبيفاك Gayatri Spivak. كنتُ حينها منغمساً حتى النخاع فيما كان يسمى آنذاك « الدراسات النظرية «، وفي الوقت ذاته كنتُ مفتوناً بمنهج التفكيك Deconstruction الفرنسي، وعلى وشك إكمال أطروحتي بشأن التأويل الديني لعمل القديس أوغسطين (397 – 426 للميلاد) المسمّى عن العقيدة المسيحية De doctrina christiana. كنتُ متحمساً إذ وجدتُ نفسي أدرسُ بمحض صدفة جميلة بمعية البروفسورة سبيفاك التي تكفّلت بعبء ترجمة صعبة ودقيقة من الفرنسية إلى الانكليزية للعمل التأسيسي المهم المسمّى في علم القواعد Of Grammatology، وهو العمل الأبرز في حقل النقد التفكيكي الذي كتبه جاك ديريدا Jacques Derrida عام 1967.
شرعنا منتصف تلك الحلقة الدراسية بقراءة عمل ويليام شكسبير (الملك لير King Lear). إعتادت البروفسورة سبيفاك أن تطلب إلينا قراءة مقاطع من تلك المسرحية الشكسبيرية بصوت عالٍ، مشدّدة على ضرورة احترام التفاعيل الخماسية(3) iambic pentameter في المسرحية. حصل مرّة أن توقفت الاستاذة سبيفاك بعد أن كانت تقرأ مقطعاً في المسرحية الشكسبيرية بكلّ جوارحها حتى لكأنها نسيت نفسها وراحت تتنقلُ بين عوالم تخييلية لانراها نحن طلبتها، توقفَتْ ثم وضعَت الكتاب الذي كانت تقرأ فيه جانباً وقالت بنبرة تأكيدية لاتخلو من تنهيدة حارة: « أنا آسفة. أنا أحبُّ شكسبير. أنا آسفة، وليس باستطاعتي سوى أن أتناسى كل شيء وأنا أقرأ شكسبير « ثم شرعَتْ تعاود القراءة. منحني كلامها – وهي المنظّرة العالمية المعروفة في حقل الدراسات مابعد الكولونيالية والنسوية – شعوراً بالراحة العميقة بعد أن كانت قناعتنا السابقة تقوم على أساس أنّ قراءة شكسبير لم تكن سوى إستكشاف للطرق التي كان بها الرجل نتاجاً وناطقاً رسمياً بإسم السلطات الأبوية (الباطرياركية) ذات المركزية الأوربية المعتمدة للخطابات الامبريالية. كنتُ مندهشاً أننا في الحلقة الدراسية التي أدارتها البروفسورة سبيفاك كنا نقرأ عن شكسبير آخر مناقض للصورة النمطية التي تكونت لنا عنه ؛ فقد كان شكسبير هنا محبوباً يكتب عن دراما عائلية تلامس إنسانيتنا المشتركة أينما كنا وكيفما كنّا. أحسستُ حينها أنّ شكسبير - وعبر هوة زمنية تتجاوز أربعة قرون مكتنفة بكلّ ضروب الاختلافات الثقافية - كان يطلقُ شراراتٍ تتطايرُ من أعماله وتضيء إحساسي الكامل بذاتي.
بعيداً عن شعوري بالراحة حينذاك كنتُ مندهشاً إزاء ردّات الفعل المعقدة التي أبديتُها تجاه البروفسورة سبيفاك، ومضيتُ أتساءل: كيف كنتُ أفكّرُ فيما سبق أنّ حبّ شكسبير وأعماله عملٌ يرقى إلى مرتبة الفعل القذر؟ هل اتخذتُ فيما سبق من حياتي، وعلى نحو مماثل لما فعله بطل جحيم دانتي، انعطافة خاطئة جعلتني أغوص في متاهة تعمي القلوب والعقول تحت لافتة مضللة مفادها ضرورة « السير في طريق لايحيد عن المسار القويم «؟
هوامش المترجمة
1. رابطة اللبلاب Ivy League: رابطة رياضية تجمع ثماني جامعات خاصة تعتبر من أشهر وأقدم جامعات الولايات المتحدة الأمريكية، تقع كلها في الشمال الشرقي للولايات المتحدة. هذه الجامعات هي هارفرد وييل وبرينستون وكولومبيا وبنسلفانيا وبراون ودارتموث وكورنل.
2. المُعتَمَد The Canon: إشارة إلى الأعمال التي صارت مرجعيات كلاسيكية في أي ميدان (فلسفة، موسيقى، أدب، علم، تأريخ،،،) بحيث تجاوزت نطاق عالمها المحلي ولقيت إعترافاً عالمياً بأهميتها ومرجعيتها التأسيسية.
3. التفاعيل الخماسية: نوع من الكتابة القياسية الشائعة في الشعر التقليدي والنثر الدرامي الانكليزي، وبموجب هذه الطريقة القياسية يتم تحديد الايقاع الذي يجب أن يُقرأ به النص الشعري أو النثري.