ستار كاووش
الإنسان الجميل لا يتوانى من فتح كلتا يديه، ليمنح الآخرين السعادة والحكمة والمعاني العالية. ومن بين الرائعين الذي عرفتهم، صديق أضاف لي الكثير من خلال إبداعه وجمال حضوره، وتعلمتُ كثيراً منه ومن شخصيته وطريقة تعامله، وحتى طريقة حديثه وإستماعه للأحاديث.
بصوته البسيط الواثق وحضوره الخفيف مثل رغيف خبز طيب المذاق، وما يتمتع به من بساطة وعدم تكلف، يُضاف الى ذلك الكثير من التفاصيل التي لو جمعناها ربما ستنتج عنها كلمة واحدة هي التواضع الذي (يخفي) وراءه نوع من العبقرية أو النبوغ. هذا ما أردت أن أبدأ به كتابتي عن المعلم والصديق زهير الجزائري الذي زارني في مرسمي الأسبوع الماضي.
كانت المرة الأولى التي رأيت فيها زهير الجزائري في مدينة لاهاي قبل عشرين سنة تقريباً. كان ذلك في أمسية تحدث فيها سعدي يوسف عن حياته وشعره. وقد قدمه الجزائري الذي كان يجلس بجانبه. وقتها لم أنشغل بسعدي الذي كان نجم الجلسة بطبيعة الحال، بل تفحصت الرجل الذي بجانبه متسائلاً مع نفسي (هذا هو زهير الجزائري إذن)، حيث جلس مستغرقاً بملامحه الساهمة وسحنته البيضاء ولحيته المجعدة التي شابها الكثير من الرمادي. فكرتُ وقتها أن أقدم له نفسي، لكن بسبب الزحام أو لسبب لا أتذكره لم يحدث ذلك، وخرجتُ مباشرة بعد إنتهاء الأمسية نحو إحدى مقاهي مدينة لاهاي. بعد سنوات طويلة حدثَ لقائنا الأول في لندن قبل إقامة الأمسية التي تحدثتُ فيها عن اعمالي في مكتبة أليف حيث عُرِضَ كتابي نساء التركواز. لنتفق بعد الأمسية على لقاء في واحدة من مقاهي لندن صحبة مجموعة من الأصدقاء، ثم نلتقي من جديد في مكان آخر من لندن حيث كان زهير ينتظرنا أنا وزوجتي أليس قرب المحطة، وكان صحبة الأستاذة الكاتبة الرائعة فاطمة المحسن، التي طلبتْ منه عند وصولنا أن يمسك حقيبتها قليلاً ريثما تلبس كنزتها، فأجابها بطريقته الودودة الماكرة (جبت طول عمري أشيل حاجاتك) فضحكنا وأكملنا طريقنا نحو المقهى الذي إختاره مكاناً للقاء، وهناك حضر الناقد السينمائي المدهش صفاء صنكور، لتكتمل الجلسة بعد ان أوصى زهير على زجاجة نبيذ ولوح خشبي عامر بانواع مختلفة من الجبن، بينما إنبثقَ صفاء بزجاجة نبيذ أخرى على طريقة زوربا. في ذلك المقهى، إمتزجَ عطر الحكايات والمتعة مع رائحة النبيذ وإلتماع قطع الجبن تحت ضوء الصحبة والأحاديث التي لا تنتهي. وبقيت تلك الأمسية في ذاكرتي، وأستحضرها كلما أحضرتُ (تختة) الجبن في أمسيات نهاية الأسبوع الهولندية.
مرَّ الوقت، وكان التلفون وسيلة تواصل جيدة بيننا، حيث حدثني الأسبوع الماضي قائلاً، بأنه في هولندا ويفكر بلقاء نستعيد معه بعض عافية الصداقة والفن والجمال، وهنا فرحت مثل طفل بلقاء صديقي المعلم الذي أحملُ له الكثير من الود والتقدير. وبما إن اللقاء سيكون في مرسمي، لذا كان عليه أن يقطع مسافة طويلة قادماً من مدينة ألكمار الهولندية الى مدينة دراختن في الشمال حيث أعيش وأرسم. كنتُ قد هيئت له النبيذ الأبيض الذي يحبه، وفيما كنتُ منشغلاً بإعداد قطع من سمك السالمون منتظراً وصوله، توقفت السيارة بمحاذاة المرسم، وظهر صاحب (باب الفرج) مبتسماً وهو يحمل مزهرية نباتات ظلية جميلة جلبها معه لأليس. أسرعتُ بوضع ما تيسر على الطاولة، فيما تكفل هو بإعداد السلاطة. مررنا بحديثنا على الكثير من المناطق والمدن والتفاصيل والصداقات، تحدثنا عن كييف وبغداد ولندن، وإفترشنا تفاصيل هولندا وحدائقها، تحاورنا عن الكتب والمطبوعات، عن الرسم والأعمال التي تعجبه، ثم إنتقلَ للحديث عن رسوماتي بالأسود والأبيض، وقد توقعتُ منه ذلك لأنه كان متحمساً لها منذ لقائنا الأول. تركنا الطاولة الكبيرة التي إنتصبتْ وسط صالة البيت، وسحبنا خطواتنا تحت المطر الخفيف نحو المرسم الذي يقع خلف البيت، وهناك فرشتُ على الطاولة عشرات أو ربما مئات التخطيطات، وكان صديقي يراقب الخطوط اللينة المنسابة بنعومة على الورق، كإنه يتابع واحدة من شخصيات رواياته، فيما إنتصبتْ لوحة (العطر) على مسند الرسم، وأخذتنا معها للحديث نحو قدرة الفنان في رسم موضوع بهذه الرمزية. البورتريهات أخذت أماكنها أيضاً في زوايا المرسم، بينما إفترشت على الجانب البعيد من طاولة المرسم الطويلة أكثر من ثلاثين لوحة من المصغرات، وهي في الحقيقة مشاريع للوحات قادمة. تحسسنا معاً تضاريس هذه الأعمال وتفاصيلها، بينما شردَ المعلم بخياله وهو يمسك لوحة صغيرة لملاك، واصفاً كيف يمكن للإنسان أن يطير كما فعل بطل إحدى رواياته. مرت الساعات ونحن وسط أعداد من اللوحات والرسومات التي تبدو كإنها تتكاثر بسبب حديثنا، أو من فرط سعادتها بهذه الزيارة، وأنا لا أخفي متعتي الكبيرة بأسئلته غير المُتوقعة حول لوحاتي. يتحسس هذه التقنية وتلك المعالجات، يتوقف هنا ويجلس هناك، يدور حول الطاولة ويعود لمسند الرسم. هنا في هذا المرسم، إمتزجَ طعم الفن والصداقة والضحك ونشوة التفاهم والإنسجام، وحتى بعد أن عدنا الى صالة البيت، بقيت الشخصيات المرسومة في اللوحات تلاحقنا وتقاسمنا الحديث. يقولون ان اللقاءات الجميلة تنتهي بسرعة، وأنا أقول بأن اللقاء مع زهير الجزائري لم ينتهِ بسرعة، بل هو لن ينتهي أبداً، بل سيعيش معي في زوايا المرسم وبين النساء الحالمات اللواتي توسدن قماشات الرسم، أو بين إنسيابية التخطيطات التي أعجبته. سيكون لنا لقاء جديد سنملأه بالمعارف والدعابات والكلمات التي تصدر من قلوب ودودة وعامرة، ونستعيد من جديد حديثنا عن أصدقاء رائعين يتقاسمون معنا مَجدَ الصداقة وجدية الإبداع، ونستحضر كذلك أصدقاء آخرين رحلوا، لكنهم مازالوا يسكنون القلب