طالب عبد العزيز

لا أعرف بالضبط كم عدد السنوات التي تمر على واقعة ما لكي تنضج في حلم، هم يقولون بأنَّ 5-6 سنوات، هي مجموع الوقت الذي يمضيه الانسان في الاحلام. لكنْ، ويبدو أن تأثيث الحلم يتم بمادة الماضي دائماً، لهذا، أنا، ومنذ عقد ونصف في بيتنا الثاني، لم يحدث أن رأيتُه في أحد أحلامي.

كل ما يحدث لي في الحلم(الرؤيا) هي من أحداث ووقائع الطفولة والصبا، في بيتنا القديم، أو في بستان أبي. النخل والانهار ومتسلقات العنب، والدروب الموحلة والثياب الجديدة والبالية والممطورة، ومن ثم الحياة والخوف، ومشاهد الموت في الحرب، وبعدها الوظيفة والمقهى وخصومات في الثقافة. تفاصيل غائرة في الزمن، تخمرت طويلاً في الذاكرة لتظهر أحيانا على شكل حلم ما.

مثل تشبث الامكنة والحوادث الماضية باحلام الانسان تتشبث مفردات الحياة الاولى بلغة وعوالم الكاتب والشاعر، تلك التي فتح عينها عليها في الطفولة والصبا، فابن القرية لا ينفكُّ يحمل مفردات الماء والجداول والاشجار من هناك، حيث ولد وترعرع، وابن المدينة يحمل ما كان محيطاً به فيها، ومثلهما يكون ابن البادية، وقد لاحظت ذلك في كتابات وقصائد العديد من الاصدقاء، في مدن عراقية مختلفة(البصرة، بغداد، الموصل، الناصرية، السماوة، كركوك..) دونما حاجة لذكر الشواهد على ذلك.

الطبيعة ببديئتها هي الحاكمة في سمع وعين الطفل المولود في القرية، ليس النهر شقاً في الارض، يجري الماء به، وليست الشجرة كائناً اخضر يحجب زرقة السماء، وليست البقرة والاوزة والبط والثعلب والسمكة والسلحفاة وو.. صوراً في كتاب القراءة، أبداً هي حياة كاملة، ستظلُّ عالقة في العين، لاصقة بالوعي، ومتكررة في الحلم، الذي لا فكاك منه. هي صوت المتحدث الاول الذي وقر في سمعه، وهي الصورة الاولى، التي نبتت في حدقة عينه، وهي المكان الآمن الأول الذي ألِفه فالتجأ اليه، فحفظ جغرافيته وما ينبض فيه من الدم والسوائل لا يعدُّ شيئا، ازاء ما ينبض حوله، وما يعتمل أمامه اكبر مما يعتمل فيه. هو واقف وهي تتحرك، هو صامت وعناصرها تتحدث، فهي الأقوى. الشاعرُ في الطبيعة خادم وهي سيدة، تفزعه آنَ تبحث عن طمانينته، وتدعوه آنَ تطرده، وتتوسله آن ترفضه، لذا تخلد مفرداتها في لغته وإن غادرها.

يؤرخُ ابناء القرى مجمل حيواتهم على وفق ما بين ايديهم من تقلبات الطبيعة. يقرأ الناس في ابي الخصيب الاشهر قراءة عربية الى اليوم، فهم يقولون محرم وصفر وربيع أول وربيع ثاني وجماد اول وجماد ثاني وشعبان وفطر وثاني فطر وعيد الزغير وعيد الكبير ووو و.. ويحددون ساعات حضورهم لبعضهم على وفق توقيتات الصلاة، فهم يقولون بعد صلاة الفجر، وقبل صلاة الظهر، والضحى او الضحى العالي، والعصر ومسيّان، ولا تخرج امثالهم عن ما يجاورهم من مفردات الطبيعة، فالشعر السبط خوصيُّ، وذات الوجه الجميل كانها خبزة، وصاحبة الوجه القبيح مثل المِلزكَة، والرجل السليم، ذو العافية صِلْ، والمراة الطويلة عيطة، والنار الهزيلة هي نار الكرب، أما القوية فهي نار التوت، ويقاس عمل الفلاح الناجح في عمله بمسحاته، والمنجل الطويل ليس لقصِّ السعف والعذوق حسب، هو لحكُّ الظهر والاكتاف أيضاً.

قبل مماته، ظل عبد الجبار عمّي ممدداَ على سريره سنوات عشر، لم ينس فيها تفقد أغراضه، والسؤال عنها، وما هي اغراضه؟ هي المسحاة والمنجل والهيم والعكفة والطبر والفروند، كان بانتظار اليوم الذي سيقوم فيه، لذا عليها ان تنتظره، وتتحمل عبء ما يعاني منه. لم تخلُ جملة في حديثه من المفردات تلك. فقد ظل أمينا عليها حتى مات عنها.

ربما يجد القارئ سطوة الطبيعة ومفرداتها الكثيرة في ما أكتب، وطغيانها على صفحات كتبي، و قد يعيب عليِّ ذلك آخر، وهنا، أجدني ملزماً بالقول: أنا مريض بهذه، مصاب بداء المفردات تلك، ومثل حزنكم على ضياع العراق حزين لفقدها، لأنني لا أجد حياتي خارجها، هي أقوى مني والله، أتوسل اليه/كم ألا يعيب أحدٌ عليَّ مرضي هذا. فقد كانَ حاضرة حياتي، النخل والأنهار والماء والمطر والطير والأبقار والعشب والأسماك ووووو العوالم تلك كانت تشلُّ حركة الانسان من حولها، فلا يبدو فيها الا صغيرا، وهامشيا ازاء حضورها القوي. الريح تقول شيئاً، والمواسم تتحدى، والمطر يهمي، ويزهر الرمان، ويورق العنب، وينضج التمر، وتلد البقرة، ويهجم الخنزير، ويسرق ابن آوى، وتمرق الأفعى، ويقفز الذئب، وتخرج السلحفاة، وتنق ضفدعة.. يسقط سور السعف على حقل اللوبياء، وينهار جرف النهر بارتفاع المد، وتحتجبُ الشمس خلف شجرة الرمان، ويفترش الجلنار فقر الميضأة، وينقر الغراب حبة الخوخ فيفسدها، والله، لو قيّض لي أْن أملأ الورقة هذه اليوم لما خلصت الى فعل من أفعالها.