TOP

جريدة المدى > عام > كيف يمكن لسقراط أن يغيّر حياتك؟ عن أهمية الكلاسيكيات في حياتنا

كيف يمكن لسقراط أن يغيّر حياتك؟ عن أهمية الكلاسيكيات في حياتنا

نشر في: 25 أكتوبر, 2022: 11:22 م

روزفلت مونتاس

ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي

القسم الثاني

أظنُّ أن أغلب القرّاء الشغوفين، وبخاصة من محبّي أعمال الراحل جبرا إبراهيم جبرا، يتذكّرون ذلك العمل الذي ترجمه جبرا في سبعينيات القرن الماضي ونشره بعنوان (شكسبير معاصرُنا Shakespeare Our Contemporary).

لايُقرَأ الكتاب من عنوانه دوماً ؛ بل من الخطأ الجسيم الحدسُ بمضمون أي كتاب من خلال عنوانه فحسب. لم يكن الأمر هكذا مع ترجمة جبرا لكتاب المؤلف البولندي يان كوت ؛ إذ جاء العنوان ليمثل شاهدة مباشرة لما سيقرأه المرء في متن الكتاب: ليس شكسبير ذاك الذي مثّل شاهداً لعصره فحسب بل يمكن أن يكون ضوءً كاشفاً لعصرنا متى ماعرفنا الكيفية المناسبة لاستنطاقه في إطار فعالية دؤوبة نستطيع بمقتضاها جعل شكسبير عيناً إضافية لنا تعيننا في فهم عالمنا بطريقة تبدو معاصرة إلى حدّ يكاد المرء يظنُّ معه أن شكسبير هو أحد عظام المفكّرين في المعضلات الوجودية لعصرنا. يمثلُ شكسبير بموجب هذه الرؤية نمطاً من " الوعي الكوني Cosmic Consciousness " العابر لحدود الزمان والمكان والبيئات المحلية. كلّ العقول العظيمة تتماهى مع هذه الخصيصة الشكسبيرية.

أقدّمُ في المادة التالية القسم الثاني (الأخير) من ترجمة لمقالة كتبها البروفسور روزفلت مونتاس ونشرها بموقع Aeon الألكتروني بتأريخ 21 كانون ثاني (يناير) 2022.

روزفلت مونتاس Roosevelt Montás هو أستاذ محاضر في قسم الدراسات الأمريكية والانكليزية بجامعة كولومبيا، ومدير برنامج الحرية والمواطنة التابع لقسم الدراسات الامريكية بالجامعة ذاتها. ألّف كتاب إنقاذ سقراط: كيف غيّرت الكتب العظيمة حياتي، ولماذا هي مهمّة لجيل جديد Rescuing Socrates: How the Great Books Changed My Life and Why They Matter for a New Generation . نُشِرَ الكتاب عام 2021.

الرابط الالكتروني للمادة:

https://aeon.co/essays/why-the-great-books-still-speak-for-themselves-and-for-us

المترجمة

ثمة قناعةٌ واسعة الانتشار بين أوساط أساتذة الأدب الجامعيين مفادها أنْ ليس هناك شيء إسمه " كتابٌ عظيم "، ولو شئنا وصف الحالة بطريقة أفضل توصيفاً وأكثر وضوحاً فيمكن التصريح بوجود رؤية راسخة في الاقسام الأكاديمية الخاصة بالانسانيات تفيدُ بعدم وجود أساس مكين يمكن بعونٍ منه أن يستمدّ المرء أحكاماً قابلة للتعميم فيما يخصُّ عظمة كتابٍ ما. تمتدُّ مدياتُ هذا الإدعاء خارج نطاق الأدب لتشمل أعمال الفن كذلك، وقد تبدو حالة هذا الادعاء مع الفن شاذة أكثر مما قد تبدو معه في حقل الأدب ؛ إذ لِمَ نحرصُ على إقامة المتاحف إن لم تكن مقصوداً منها إفرادُ وعرضُ الأعمال الفنية المميزة التي تستحقُّ إنتباهة خاصة واهتماماً إستثنائياً؟

لكنّ تحدي فكرة " العظمة " الكامنة في عمل أدبي أو فني (وهو التحدي ذاته الذي ينطوي على فكرة إضفاء قيم تراتبية على التعبيرات الثقافية) ليس بذلك القدر من غير المعقولية الذي قد يبدو عليه للوهلة الأولى. لو شاء أحدٌ ما الإشارة إلى صفات جمالية في عملٍ ما فسيعرفُ قبل غيره مدى المشقة الكامنة في هذا الفعل ؛ إذ أنّ محاولات بشرية حثيثة منذ القدم فشلت في تقديم معايير موضوعية يمكن أن تكون نبراساً هادياً لنا في تشكيل شواهدنا على " عظمة " أشياء محددة في أعمال أدبية أو فنية، وبالإضافة لذلك فإنّ الأحكام الجمالية يمكن أن تنحلّ بسهولة من أحكام صلبة لتنتهي في خاتمة الأمر بأن تكون مدار تفضيلات شخصية ومسألة تقييمات مشبعة بالفردانية. قد تكون هذه التقييمات الشخصية متوافقة مع الأعراف الاجتماعية السائدة ؛ لكنها في حقيقة الأمر ليست سوى نتيجة أنماط خاصة من التعليم. لنضع الأمر بكلمات أخرى: من الصعب فصلُ القيمة الجمالية لعمل أدبي أو فني ما عن التحيزات الثقافية – الأرستقراطية منها بخاصة -.

يمكنُ للمرء أيضاً أن يسوّغ حجّته بشأن عظمة كتاب أدبي ما أو عمل فني ما بالإشارة إلى تأثيره في صياغة وتشكيل مدرسة فكرية معينة، أو بالإشارة إلى دوره في صناعة رؤيتنا للعالم. في هذه الحالة فإنّ الناقد الذي يمتلك وسائل وأدوات تنظيرية مفرطة في التعقيد قد يجادلُ بأنّ مثل تلك الشواهد على عظمة تلك الأعمال لاتشيرُ إلى أي شيء تحتويه تلك الأعمال ذاتياً بقدر ماتشير تلك الشواهد إلى تمثلات تأريخية لمجاراة السلطة الإجتماعية التي لايمكن فصلها – كما يرى المنظّر الناقد – عن أنماط القمع والاستبعاد والهيمنة لأعمال دون غيرها، وهذه كلها أفعال شائعة في عالمنا المعاصر. تريد هذه القراءة النقدية لواقع ثقافتنا العالمية المعاصرة القول بأنّ الأشكال النخبوية للسلطة الثقافية المُجَسّدة في قيم " العظمة " إنما تكرّسُ دعائمها عبر إستغلال " الآخر " وانتزاع الخواص الانسانية منه.

إنّ هذه النقودات للعظمة الأدبية او الفنية، والمنطوية على موقف مضاد لوجود أساس مفاهيمي صلب يصلحُ معياراً لتقرير العظمة الأدبية أو الفنية، إنما تحمل في ثناياها إشارات مضمرة شديدة الوقع بأن تراتبية القيمة الفنية هي ربما حصيلةُ تواطؤ يحرّكه فساد أخلاقي !! إنّ مَنْ يجرؤ مِنْ أساتذة الأدب على الجهر بالقيمة الأدبية الرفيعة لعملٍ أدبي ما (وبخاصة الأعمال الكلاسيكية المنتمية للمعتمدات الادبية المعروفة) إنما يفعل هذا وهو يعرف إمكانية إنهاء خدماته الجامعية. من الأفضل لكلّ من يعملُ في حقل الأدب المعاصر أن يصرّح بنقده لكلّ الأعمال الأدبية الكلاسيكية منها والمعاصرة، وكلّما علا صوت نقده، وبخاصة للكلاسيكيات القديمة، كان هذا أفضل له ولمستقبله المهني الجامعي.

لكننا، ومن غير التقليل من شأن استبصارات النظرية النقدية المعاصرة، نستطيعُ إحتواء القوة الباعثة على شلل الأدب في هذه النظرية عبر تجنب أي جهد منظّم لتعريف الكتاب (الأدبي) العظيم – أو مايسمّى بالعمل الكلاسيكي - بالإشارة إلى أية ماهية تعريفية سواء كانت جمالية أو آيديولوجية أو تأريخية. نستطيعُ في المقابل، وببساطة تامة، عمل مسحٍ شامل لكلّ النصوص التي استعصت على مفاعيل الزمن ووصلت إلينا في سجلات مكتوبة متخطية بضعة آلاف من السنوات المعروفة، ولنلاحظْ في هذا الشأن أنّ أعمالاً بذاتها وليست سواها هي التي برهنت قدرتها على إضاءة حيوات كثيرين من شتى صنوف البشر في ظروف تأريخية متعدّدة ومختلفة. إستطاعت هذه الأعمال بطريقة ما تخطي ظروف نشأتها الأولى، وبرغم أنها تحكي عن عصرها فإنّ لها القدرة على تجاوز حدود ذلك العصر والامتداد عبر الزمن نحو عصور لاحقة بضمنها عصرنا الحالي. أنا، على سبيل المثال، لستُ في حاجة لفهم الكثير - بل وحتى أقلّ القليل – من الصراعات السياسية التي سادت مدينة فلورنسا الايطالية في القرن الرابع عشر (وهي صراعات نشهدُ أمثلة لها في الكوميديا الإلهية لدانتي) لكي أجعل ذلك العمل (الكوميديا الالهية) مصدراً ملهماً لتأمّلاتي العميقة بشأن الانسانية ؛ مبتدئاً من استدعائها الخلاق لواحد من البشر الذين يبلغون مبلغ الأزمة في رحلة الحياة التي يسير فيها كلّ البشر:

عندما قطعتُ نصف رحلة

حياتنا الطويلة

وجدتُ نفسي داخل غابة

تسودها الظلال

لأنني أضعتُ المسار

الذي لايحيد عن الامان

إنّ مايجعلُ دانتي مرشحاً لحيازة " عظمة " أدبية ليس إنغماسه في لاهوت الكنيسة القروسطية، أو في المواجهات الصراعية التي تسيّدت السياسة في وسط إيطاليا ؛ بل في قدرته الفائقة وسط كلّ هذه الفخاخ السياسية والاجتماعية على الكشف عن " شيء ما " ذي قيمة حيوية ومعنى جدّي لنا نحن الذين نعيشُ في القرن الحادي والعشرين (الأمر سيان ولايختلف بالنسبة لمن عاش في قرون سابقة، أو لمن كان يعيشُ في الدومينيكان مثلي ثم هاجر إلى الولايات المتحدة). ومثلما هو الحال مع دانتي فهو شبيه مع حالة توني موريسون: ليس إنغماس توني موريسون في مواريث حكايات الرقيق الامريكيين هو مايجعلُ رواياتها تقبضُ على أنفاسك حتى النهاية وبالتالي تكون عظيمة (نعم، روايات توني موريسون عظيمة) ؛ بل مايجعلها عظيمة هو مقدرتها على جعل التجربة الانسانية للرقيق الأمريكيين حية نابضة بالحس الانساني وقادرة على اختراق عوالم حتى الذين ليست لهم علاقة تأريخية مباشرة أو غير مباشرة بتلك التجربة. الأعمال (الأدبية) العظيمة إنما صارت عظيمة لانطوائها على مقدرة بيّنة – وإن تكن مراوغة بعض الشيء – تضيء تجربتنا الانسانية المشتركة. إنّ هذه الخصيصة التشاركية الانسانية الغامضة التي عثر عليها شاب يافع أسود يقطن حيّ هارلم النيويوركي، يدعى جيمس بالدوين James Baldwin، عندما شرع بقراءة دوستويفسكي لأوّل مرّة، هي التي جعلته يهجرُ مشروعه في أن يكون مبشراً ويتخذ من الأدب مساراً مكرّساً له، ثم ليكون جيمس بالدوين الذي نعرف.

ليس المرء في حاجة لأن يفترض ماهية ميتافيزيقية للطبيعة البشرية لأجل إدراك أنّ كلّ البشر يتشاركون خصائص أساسية متماثلة: إبتداءً من التنظيم البيولوجي المتخصص حتى المعمارية الجينية المتخصصة،،، ومن أشكال محدّدة من الإدراك حتى حالة العيش الوجودية التي ندرك فيها جميعاً حقيقة الموت الذي يمثل الخاتمة الطبيعية لوجودنا البشري. يمكن الحفاظ على إستبصارات النظرية النقدية، وفي الوقت ذاته يمكن عدم استبعاد الأساس الذي تقوم عليه حججنا بشأن كيفية عمل الفن والأدب في الكشف عن مكامن الدهشة والغموض في تجربتنا الانسانية المشتركة. من المثير للملاحظة والدراسة أننا يمكن أن نستمرئ متعة إلى أقصى الحدود المتصورة من الحقيقة الخارقة للطبيعة والتي مفادها أنّ الأعمال العظيمة في الأدب والفن يمكن أن تمسك بالخواص المشتركة في تجربتنا الانسانية عبر وسائط وأساليب أبعد ماتكون عن الخصيصة التشاركية، وأهمّها ثلاثة: الفردانية Individuality، الذاتية Subjectivity، الخصوصية Particularity.

عندما شرعتُ بتدريس مادة (كتب عظيمة) لطلبة الدراسات الانسانية الاولية بجامعة كولومبيا (وهو المنهج الاساسي ذاته الذي درستُهُ أنا قبل ثلاثين سنة سبقت رجوعي أستاذاً في كولومبيا. يضمُّ المنهج الأساسي الأعمال الكلاسيكية في " المعتمد " الأدبي والفلسفي بحسب التقاليد الغربية السائدة) فإنني في الغالب أسألُ الطلبة المسجّلين على المنهج الدراسي لهذه المادة السؤال التالي: عندما تبدأ الشيخوخة والموت بالزحف إليك، ماالذي يجب فعله؟ أعلمني هؤلاء الطلبة أنّ هذا السؤال ظلّ يرنّ في عقولهم لسنوات طويلة بعد تخرجهم وانغماسهم في مشاغل مهنية متنوعة المشارب. صحيحٌ أنّ هؤلاء الشباب يأتون للجامعة مدفوعين بدافع تحسين فرص توظيفهم وحيازة مهارات يمكن لهم معها الحصولُ على ميزات تنافسية في سوق محكومة باعتبارات تجارية ومالية محتدمة ؛ لكنهم يدخلون الجامعة في غمرة معضلات وجودية تجتاحهم بطريقة عنيفة، وهم يتطلعون لا إلى الحصول على وظائف مرموقة مالياً فحسب بل إلى إعادة تكييف حيواتهم أيضاً وجعلها أكثر تناغماً مع الحقائق الصارخة للوجود البشري بكلّ تعقيداته وتناقضاته وإشكالياته.

التعليم الحر مقاربة في التعليم تكشفُ أساس حالتنا الوجودية، وهي تتناول - بكلّ جدية ممكنة - فكرة المساءلة العقلانية للمعضلات الأساسية في وجودنا البشري، وأنّ هذه المساءلة مسعى يستحقّ كل الأعباء المترتبة عليه لكلّ فرد في المجموع البشري. ربما ليس من وسيلة أقوى لتحقيق هذه المساءلة من المناقشات المفتوحة في جماعات صغيرة من القرّاء أو طلبة الجامعات المكرّسين، هؤلاء الذين يجدون لذة لاتقاومُ في قراءة الأعمال الادبية والفلسفية العظيمة التي لم تزل لها مفاعيلها المؤثرة في تشكيل حياتنا وثقافتنا المعاصرتين.

ماأسعى لقوله بسيط وواضح: إمنحوا " غير المحظوظين " بميزات إجتماعية كبرى القدرةَ على الولوج إلى الغنى الثقافي الذي ظلّ لفترات طويلة مقاطعة حصرية محتكرة للأقليات النخبوية، وستكونون بهذا الفعل قد منحتموهم الأدوات اللازمة لقلب التراتبيات الإجتماعية التي وجدوا أنفسهم عالقين فيها إلى الحد الذي دفعهم إلى القيعان المجتمعية المكروهة. حينها، وبالاضافة إلى تسلحهم بالمهارات اللازمة للتقدم الاقتصادي والارتقاء المجتمعي، فإنّ هذا العمل الأعمق الذي ينهض به التعليم سيكون الهدية العظمى التي يمكن أن تقدمها الكليات والجامعات للشباب اليافعين، وفي الوقت ذاته سيكون المساهمة الأكثر فائدة التي تقدمها الكليات والجامعات لمجتمع عادل يسعى لأن يحظى كلّ أفراده بفرص متساوية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: الدرّ النقيّ في الفنّ الموسيقي

في مديح الكُتب المملة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

كوجيتو مساءلة الطغاة

مقالات ذات صلة

علم القصة: الذكاء السردي
عام

علم القصة: الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الاولالقصّة Storyالقصّة وسيلةٌ لمناقلة الافكار وليس لإنتاجها. نعم بالتأكيد، للقصّة إستطاعةٌ على إختراع البُرهات الفنتازية (الغرائبية)، غير أنّ هذه الاستطاعة لا تمنحها القدرة على تخليق ذكاء حقيقي. الذكاء الحقيقي موسومٌ...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram