TOP

جريدة المدى > عام > صالح النجار (أجساد مُحَوسَبة.. كأنها خوارزميات)

صالح النجار (أجساد مُحَوسَبة.. كأنها خوارزميات)

نشر في: 30 أكتوبر, 2022: 10:54 م

د. قيس عيسى

ان الحديث عن العمل الفني يجعل الكاتب يؤدي مهمتين مهمة المُتلقي و مهمة الفنان وهذا الانشطار بين التذوق و بين الخبرة وبين المُرسل والمُستقبل بين الضمير الإنساني و الأنا المُتعالي وبين هاجس الفنان وجُموع المُتلقين كل ذلك عبر عنه هابر ماس بـ (الفضاء التواصلي) وهو مشروعية أن نكون معاً.

ان الإفراط المُتعمد في تكرار صُورة الجَسد في أعمال الفنان (صالح النجار) ما هي إلا تأكيداً للمَشهد الغائب الذي تَمثل بِظلال الأشخاص وتأكيداً لِحضور الظل بَديل الملامح وتعزيز الذكرى بديل الجسد. هذه الأجساد المُولعة بالحركة تجول في ذاكرتنا فتجعلنا نتفحص ما بقي من نسخها الأصلية التي تمنحنا (فجوات) تتسعُ أكثر من الكلمات تنتظرُ كي تُملى من قبلِ الجمهور. الفنان لم يَعطِنا سر شخصياته إن كانت قاتلة أو مَقتولة، فهو لا يُحدد من (هم الساسة و من هم الثوار) إنهم فقط أشباه ظلال تتشكل شخصياتها حسب ما نحنُ نُريد إن كُنا جبابرة أو مظلومين(مع أو ضد). وهنا يَشتغل اللعب الحر الذي يكتنز الإبداع فهو لا يصور مشهداً واقعياً يتصف(بالإبصار حسياً)كما فعل(الفنان كويا في لوحة إعدام الثوار)(*) بل شدد على المفهوم الذي يَنفتحُ على التأويل فكل لوحة من لوحاتهِ لها أكثر من زاوية تفكير باحثة عن(معرفةٍ)حتمية كما اشار(نيتشه). فهو أكثر عُمقاً في التعبير ليس إنفعالياً(عاطفياً)طاراً أو آنياً، بمعنى صورة تمزيق الجسد بالرصاص. وإنما تعدى ذلك بجعل الجسد أكثر شفافية وأكثر عرضة للاختراق فهو يجعل الدراما مُنظمة ومتماسكة برؤية معاصرة، فهو ليس رومانتيكياً بل تقصى كل أشكال الإختراق لذلك الجسد فَجَعلهُ نَسيجاً ينفذُ منه كل شيء فهو يعي شروط عصره، أجساده كإنها(خوارزميات حوسبيه)تتشابك فيها المعلومات أشبه بعالمنا الرقمي الهيلامي الذي تَشَكّلنا بهِ الآن، والذي يبثُ لنا الجماليات والسموم.

كل تناقضات الكون من السهل عليها أن تخترق أجساد(صالح النجار)لذا نجد الفنان يرصدُ أناقة عصره وطرق الإختراق التي أصبحت بدون رصاص. ليس كما فعل(كويا)في زمنهِ البصري الذي ينظر إلى الصورة (اللوحة) ولا ينظرُ إلى عوالم مخفية تجول في عقولنا وتخترق كل الأجساد هكذا تجاوزت أعمال الفنان(صالح النجار)المعنى البصري الواحد إلى انفتاحٍ في التأويل بأدوات تستشعر عصرها.

أما على الصعيد التكنولوجي (التقني) في بناء الشكل الفني للعمل إستعار الفنان خامة نسيجية شبكية ذات مربعات متقاطعة الخطوط ممكن أن نُشاهِدَ من خلالها الأشياء في الخلف كأنها توحي بالشفافية أشبه بطبقات (الفوتو شوب)(Layers) حيث وظفها الفنان لغرض خلق درجات ظليه توحي بالعتمة والضوء أي إنه يصنع من تراكمات الطبقات تدرج ظلي ولوني على سطحٍ ذو بعدين. فالفنان بهذا الفعل ينقل العمل من منطقة الرسم ذات الأداء المهاري إلى منطقة التفكير التكنولوجي المعاصر فهو يحيل الصورة إلى زمنها الثقافي المُقتصد لكي يُشّيّد اللحظة الراهنة (المُحَوسَبة) بآليتين ألية ثبات الشكل الفني أمام المشاهد وآلية أخرى تمنحهُ التكاثر في ذهن المتلقي كأنه برنامج مُحَوسب ما أن تتعرف على أسرار إشتغاله حتى يُباشُرك بالتفعيل و الإنتاج بل يجعل المُخيلة تفترضُ عالماً آخر وصور أخرى.

دراسة البِنية الجمالية في أعمال الفنان صالح النجار

يعتمد الفنان صالح النجار على تكثيف المشهد البصري إلى حد التشفير وهذه الآلية تجعل النص البصري يَنفتح على التأويل. فنلاحظه يَقتصدُ في التشكيل من خلال إستخدام المساحات الشبكية مُتعددة المستويات، وبِتعددها تنتج ظلالاً يوظفها الفنان لاظهار أشكاله المُقتَصِدَةِ و المَقصُودَةِ.

وبهذا التراكم يُحدِثُ ظلالاً شفيفة تُحدد ملامح الاشكال، وبهذه الآلية أستعاض الفنان صالح النجار عن الممارسات الحداثية في طرق وإداءات التكوين، وهذا النسق له جذوره في ممارسات (الفنانين ماتيس و براك و بيكاسو) فكان هدفهم أنشاء تقنيات إظهار جديدة و مغايرة لما معهود في الممارسات الادائية الفنية. فهو خروج عن الرسم لكن فقط بتغير جنس المادة، كما فعل بيكاسو وبراك في استخدام الصحف اليومية أو صورة مأخوذة بعدسة الكامرة أو صور الإعلانات أو مواد خام، أما الفنان صالح النجار وظف تقنية (فن التلصيق –Collage) لكن حولها من وسائل تُحقِقُ فعلُها البصري لمرةٍ واحدة إلى جعل الخامة في ديمومة وإنشطار مُستمر وتمثلت هذه الخامة في مساحتها الشبكية المُثقبة.

هذا التباين في درجات الظل أظهر مُستويات أخرى للشكل كإنه مُتواري خلف الشبكة أو إنه مُغطى بقناع شبكي يُزيد من تخفي سمات الشكل المُستعار وعدم القدرة للتدليل عليه سواء كان (إنسان أم حيوان). وبهذه المُمارسة يأخُذنا صالح النجار إلى تقنية أخرى وهي تقنية (فن الإيهام البصريOptical Art -) الذي ينتج عن التداخل بين الظلال و الضوء عبر مساحات يحركها الفنان كما يشاء لينتج أشكالهُ و شخوصهُ وأيضاً البنية الإظهارية للوحة.

أن التصرف الادائي الحر في إبتكار الشكل البصري تَحكمه سلطة أخرى وهي سلطة النسق التجريدي تحديداً التبسيط لحد الاقتصاد باللون فهي سلطة حاكمة أو نظام البنية كي تُحققُ بنائِها المُحكم من خلال إستخدام أو هيمنة اللون الأسود و الأحمر كظلال و سطح القماش الأبيض و اللون الأصفر بمثابة ضوء، فهذا الإستبدال لوظائف اللون بمغايرة بسيطة أدى إلى ظهور بنية تصميمية (كرافيكية) كإنها نماذج طباعية.

وهذا التطور يحسب للفنان لإنه نقل التجريد من مستوى مُغلق الإيحاء إلى مستوى إنفتاح الإيحاء. وهذا يُقربُنا من حدين مُهمين لدى(بيكاسو)عندما يستخدم آليات التحليل و التركيب في نمذجة الشكل البصري فنلاحظ إن (بيكاسو)يحتفظ بالسمات الأساسية الدالة على الشكل مع وجود قوي للتجريد ومن ثم يتصاعد الإيحاء إلى مدى أبعد عندما يلامس الشعور من خلال التعبير الإنساني وهذه سمة أساسية يتسم بها الفن، فنعرف الفن على هذا الأساس بأنه الحضور الإنساني المُتبقي فينا ضد كل ممارسة شرسة. مع الاخذ بالاعتبار لوظائف الفن الأخرى الإبداعية و الجمالية.

وعند دراسة فضاء اللوحة لدى الفنان صالح النجار هو فضاء عائم أو فضاء أثيري سمته التنافذ عبر الاشكال كما أنه يُحيط بها وهذا ما أشرنا له في مُسبقاً بأن أجساد صالح النجار أجسادٌ مُحوسبة أي أنها لغة تنافذ السطوح لانتاج الاشكال، هذا على مستوى الأداء أما على المستوى الفكري فقد إستعار الفنان (شكل الإنسان و شكل الثور) كأنها إستعارات فيها تورية واشهار لعلامات مُضمرة، كان الفنان يقصد إقحام المُتلقي بدور المؤول من خلال مزاولة مهمة بناء و تشيد نصه الذي يوازي العمل الفني. أما الاشهار فهو يؤكد على فعل الانسان سواء كان سلباً أو إيجاباً. أكان مفكراً مسؤولاً عنما سيحدث أو فعلٌ إرتجالياً هائج لا يملك حكمة كما في إهتياج الثور.

أياً كانت التأويلات نحن الآن إزاء عمل يكتنز التضادات وهذه الاضداد هي موقف الفن إزاء ما يُحيط بنا من أحداث وهذه هي السمة المُهمة للفن الآن التي تُديم النوع الإنساني. وهي سمةٌ عابرة للاديان و الإنتماءات و الأعراق سمةٌ تَجعل الفن أقرب من الفعل الإنساني الشعوري المسؤول أكثر من سمة تسليع الفن الآن.

(*) إستعار الكاتب لوحة الفنان (كويا) للمقاربة بين ضدين بشريين كي نزيد مساحة التساؤل في التأويل (لدى طرفي الصراع) هذا على صعيد الرؤية الفلسفية للمشهد البصري، أما على صعيد التكرار للأجساد البشرية ماهي الاستعارة لصياغة الرؤية التشكيلية والايحاء بالحركة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: الدرّ النقيّ في الفنّ الموسيقي

في مديح الكُتب المملة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

كوجيتو مساءلة الطغاة

مقالات ذات صلة

علم القصة: الذكاء السردي
عام

علم القصة: الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الاولالقصّة Storyالقصّة وسيلةٌ لمناقلة الافكار وليس لإنتاجها. نعم بالتأكيد، للقصّة إستطاعةٌ على إختراع البُرهات الفنتازية (الغرائبية)، غير أنّ هذه الاستطاعة لا تمنحها القدرة على تخليق ذكاء حقيقي. الذكاء الحقيقي موسومٌ...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram