حيدر المحسن
1
تأخذ طريقك إلى مركز مدينة سوسة بواسطة الميني الباص، وتجلس بجوارك شابة صغيرة القدّ تحمل بين ذراعيها طفلة. لم تتحرّك الشابّة من مكانها، وظلّت طوال الرحلة تلتصق بك بذراعها العارية،
وهذا مما زاد الموقف زخما، وكنتَ تُغالب شعورك في كلّ لحظة بأنها امرأة وأنت رجلٌ. لكن الذي عالج الأمر، وجعلني أتخلّص من هذه المادة القاتمة التي تغيم على ذهني، هو مشهد النساء سافرات الوجوه والأذرع في الشوارع، وهنّ يصعدن وينزلن في المحطّات مثل فراشات يبعث ضوؤها عبير الحريّة التي تحتاجها النفس في أول النهار خصوصا. ولمّا بلغنا نهاية الرحلة، لم يكن هناك توتّر في أعصابي، ولا شعور بافتتان غريب لأن امرأة كانت تجلس لصقي، بذراعها العارية.
الأهمّ من الأناقة، في رأيي، خصوصا في عالم النساء، هو الشعور بالأناقة، وهذا يتأسّس على قواعد في النفس أكثر منها في العقل، وإنساننا الحاضر يتحكّم فيه، بالتالي، عدد محدود من خلايا الدماغ، لا كلّها، لأنه لو استعمل هذه العدّة المعجزة لما بقيت مشكلة واحدة على الأرض دون حلّ. مهما كان وضع المرأة، حتى لو كانت عروسا، فإن الملابس كامدة اللّون تزرع في قلبها إحساسا عميقا وقويّا بالهجر، ذلك لأنها تُنزل شعورها بالأناقة إلى أسفل سافلين، كما أن القسم الأعظم من النساء يشعرن بمظلمة عظيمة وهن يُجبرن على أن يظهرن في الشارع بالجبة الإسلامية أو بالعباءة، والعبارات البليغة من ذويهنّ على أن ثياب المرأة المسلمة دلالة على طهارتها واحترام المجتمع لها، لا تزيل منهنّ الشعور بالإحباط بصورة كاملة. إن الكلمات المعسولة بإمكانها قلب تفكير المرء رأسا على عقب، أما تلك المنطقة القاتمة في أذهاننا والتي تُدعى باللاشعور، فإن كلام السماء والأرض مجتمعين لا ينقلان ذرّة مما فيه إلى غير مكانها. تعطي الثياب القشيبة المرأة السافرة الشجاعةَ والثقةَ بالنفس، في أثناء الكلام والعمل مع الرجال، وخصوصا في حالة تعرّضها لاعتداء من قبلهم، والفتاة المحجّبة لا تقوى على قول "لا" في مثل هذه الظروف، فهي تعلّمت أن صوتها عورة، ولا يجوز أن يسمعه أحد خارج البيت. والغريب في الأمر أن أعلى نسبة للتحرّش بالنساء تحدث في أكثر البلدان تشدّدا في ما يخصّ الحجاب، وهي أفغانستان، وكانت النسبة في السويد هي الأقلّ، أي أننا كلما غلّفنا المرأة صعّدنا من قُدرة الرجال على الاعتداء عليها، بعبارة أخرى أن العباءة والجُبّة تضرّان ب(سِتر) المرأة أكثر مما تنفعانه، فما هي فائدة إغلاق شكل المرأة، وبالتالي روحها؟
يقول على الوردي أستاذ الاجتماع العراقي: «الأفكار كالأسلحة تتبدل بتبدل الأيام، ومن يريد أن يبقى على رأيه، كمن يريد أن يحارب سلاحاً نارياً بسلاح عنترة بن شداد». ترتدي المرأة الحجاب، ونشعر عندها، نحن الذكور عندما نقترب منها كأن شيئا لا نهائيّا يبعدنا عنها، ويقرّبنا إليها في الوقت نفسه. إن أقوى طريقة لاستمالة الرجل إلى المرأة هي في عزلها في شرنقة من حرير، أي العباءة والحجاب والشادور، وغير ذلك. بل إن أكثر ما يثير حبّ تطلّع الذكر إلى الأنثى هو النقاب، عندما تتراءى منه عينان لا شيء فيهما غير الغريزة، وإذا نظرتَ في عينين نجلاوين -وأيّ عينين لا تكونان نجلاوين من خلف ستار النّقاب- فإنك رأيت بنت حوّاء كأنما عارية، وتشبه أمها حوّاء، وأنت آدم. الضرر الثاني الذي يسببه الملبس الفضفاض -الجبة والعباءة- أنه يؤدي إلى اكتساب البدانة لدى المرأة، وهذا طريق مباشر إلى البلادة والبطء في تلقّي المعلومة عن طريق الحسّ أو الفهم. مرة أخرى مع علي الوردي: "دأب وُعّاظنا على تحبيذ الحجاب وحجر المرأة، فنشأ من ذلك الانحراف الجنسي لدى المرأة والرجل معا". ويظهر هذا الشّذوذ بالنتيجة في المجتمع، لأنه يتكوّن بطبيعته من رجال ونساء. خصّ الروائي العراقي فؤاد التكرلي، وقد أمضى عمره الوظيفي قاضيا في أرجاء المحاكم، مجملَ قصصه ورواياته في موضوع شائك هو الزنا بالمحارم، وهذا الأدب، بما عُرف عن التكرلي من حدّة النبوغ والإبداع، يقدّم لنا صورة مكشوفة عن الزنا بين الجميع، وكلّ هذا نتيجة طبيعيّة لعزل المرأة عن الرجل.
يتبع...