TOP

جريدة المدى > عام > السومريون .. شغف الباحث وعقلانية البحث

السومريون .. شغف الباحث وعقلانية البحث

نشر في: 5 نوفمبر, 2022: 11:12 م

احمد ثامر جهاد

بداية لا بد من الإشارة الى أن حقل البحث الانثروبولوجي ليس حقلا علميا يسيرا، فيما الاجتهاد او الانجاز او الابتكار النظري فيه هو في الغالب من نصيب فئة قليلة من المشتغلين الذين كرسوا جلّ حياتهم في البحث الاكاديمي والمعرفي.

وعلى الرغم من وفرة المؤلفات المعنية بالحضارة العراقية القديمة على غير صعيد، سواء العربية منها او الاجنبية، نجد ان كتاب (السومريون) للبروفيسور الايطالي فرانكو داغوستينو ينطوي على ميزات عدة يمكن تصنيفها الى ميزات اسلوبية واخرى منهجية:

ربما في مقدمتها ان المؤلف ليس بالباحث الذي يكتفي بالتحليل والدراسة واستنباط النتائج داخل الغرف الاكاديمية المغلقة، بقدر ما هو رجل الميدان الآثاري الذي عاين بنفسه وتيقن بمجساته الخاصة كل ما تحصّل او اتيح له من فرص ملموسة لكشف المخبوء عنه في الحضارات العراقية القديمة والتي غابت العديد من معطياتها وشواخصها عن الدراسات الانثروبولوجية العلمية المنصفة.

الامر الاخر هو ان تخصص د. فرانكو في اللغات السومرية جعله باحثا علميا ورجلا ميدانيا مؤهلا للغوص عميقا في خبايا الادب السومري القديم- بوصفه من اعرق النصوص المدونة في التاريخ البشري- وتاليا قدرته على رسم مشهد الحياة الاولى بشتى مظاهرها في حضارة وادي الرافدين، وذلك كله بعين من ينهل من بعض فرضيات المنهج الفيلولوجي والتاريخي لوصف نظام قديم ومعقد يمزج بين المعرفة والمعتقدات والقوانين والاساطير وفنون العمران والآداب وسواها من منجزات الحضارة السومرية الرائدة.

على صعيد متصل نجد ان المؤلف متحرر منهجيا من الكثير من الاشكاليات التي رافقت البحث الانثروبولوجي في تاريخ الحضارة العراقية والتي توقف بعض دارسيها عند عتبة السؤال عن اصول المجموعات العرقية التي انتجت حضارة سومر والكيفية التي حتمت ذلك، فيما انشغل د. فرانكو بحسه الموضوعي في تتبع وتقصي الاجابة العقلانية والمختبرية الشافية لوصف معطيات ومنجزات الحضارة السومرية بعيدا عن التيه في تلك الاسئلة، بشكل يدفعنا الى وسمه برجل العقلانية المنهجية التي ليس من خواصها ان يجزم الباحث في خضمها بصحة اية فرضية لم تثبت صحتها بعد مختبريا او تحليليا.

في الغضون يقول د.فرانكو "لابد من الاعتراف ان الفجوات التي تواجه الباحث في قراءته للمشهد السومري كثيرة ومعيقة عمليا، ليس اقلها غياب الكثير من الالواح واللقى والشواخص الاثارية التي توثق للحقب التاريخية من جراء عمليات النهب التي طالت المواقع الاثارية العراقية في حقب مختلفة وعبر فترات طويلة بدأت مع الاستعمار..." بل يذهب ابعد من ذلك ليشير الى تشتت وارتحال الكثير من الالواح السومرية فائقة الاهمية في اكثر من 20 بلدا حول العالم، الامر الذي جعل من الصعب علينا كباحثين وصف المشهد السومري في مراحله التاريخية المختلفة بشكل موضوعي مكتمل تتضافر وتتجاور فيه عوامل التاريخ والجغرافيا والمعرفة والنظم الادارية والقانونية، لاسيما وان تلك القطع العديدة المنهوبة لا يعرف بالضبط - بعد اقتلاعها من موطنها الاصلي- اين تم العثور عليها، لذا نجد كنتيجة لذلك ان المشهد الآثاري السومري على وجه الخصوص تشوبه النقائص وتتخلله الفجوات التي تدفع الباحثين الى بذل المزيد من الجهد المعرفي والميداني الدقيق من اجل ردمها وبما يساعدنا جميعا في فهم عوامل صعود وافول الحضارات في حقبها المتلاحقة.

اما على صعيد الاسلوب فمما يميز هذا الكتاب هو سلاسة طرحه للموضوعات رغم طابعها الاكاديمي البحت والذي يقود عبر تتبع كشوفات الحقل الآثاري الى مواجهة واعادة طرح الاسئلة الاكثر اشكالية من قبيل: لماذا عُدت (بابل) رمزا للشر في الديانة المسيحية، فيما على النقيض من ذلك اعتبرت (القدس) مدينة الرب؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: الدرّ النقيّ في الفنّ الموسيقي

في مديح الكُتب المملة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

كوجيتو مساءلة الطغاة

مقالات ذات صلة

علم القصة: الذكاء السردي
عام

علم القصة: الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الاولالقصّة Storyالقصّة وسيلةٌ لمناقلة الافكار وليس لإنتاجها. نعم بالتأكيد، للقصّة إستطاعةٌ على إختراع البُرهات الفنتازية (الغرائبية)، غير أنّ هذه الاستطاعة لا تمنحها القدرة على تخليق ذكاء حقيقي. الذكاء الحقيقي موسومٌ...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram