لطفية الدليمي
تعاظم عقب إنحسار الحرب الباردة أوائل تسعينيات القرن الماضي تأثير ظاهرتين كانت لهما نتائج حاسمة في إعادة تشكيل خارطة الأنساق الفكرية العالمية:
الظاهرة الأولى: تعاظم تأثير العلم وتطبيقاته التقنية وبخاصة في الميادين التي تعزّز قدرات التواصل البشري والقوى الإدراكية، وتتيح له في الوقت ذاته الولوج الحرّ غير المقيّد للحصول على المعلومات. الظاهرة الثانية: تعزيز فردانية الانسان وتحريره من سطوة الأنساق الفكرية الشمولية بسبب تعدّد وسائل محاكمة الأفكار وتغيّر مفهوم الدولة تحت تأثير المدّ العولمي الجارف؛ إذ أصبحت الدولة أقرب لتركيبة تقنية يُراد منها توفير الأمن والخدمات وتعزيز فردانية الأفراد وقدراتهم الإبداعية عبر رفع الحُجُب عن كلّ مايقيّد تلك القدرات وترسيخ حرية الإختيار بالتخلّص من هيمنة الزعيم (الأب الآيديولوجي) الذي كان يحدّد مسارات حياة البشر في محيط بطريركيته الآيديولوجية.
يتميّز عصرنا الراهن ببعض سمات خاصة في كلّ حقل من الحقول الفكرية والثقافية المنفردة: علماً وسياسة وأدباً واقتصاداً، الخ، وهناك خصائص أخرى محدّدة تسم منظومته التي تؤسس لأنساقه الفكرية، وأصبح من المسلّمات أن يجري تحطيم المرجعيات المتحكمة بتلك الأنساق حتى أمست الميزة الأهم التي تغلبت على سواها من خصائص عصرنا.
لم تكن أنساقنا الفكرية في عصر مابعد الحداثة (أو عصر مابعد الحرب الباردة، لافرق) وقبله بمعزل عن التأثر بقدر من الجرعة الآيديولوجية التي ساهمت في تشكيل هيكل تلك الأنساق. لسنا سذّجاً لنتوقّع غياباً كاملاً للآيديولوجيا. شهدنا موجات الوجودية والتفكيكية والبنيوية والسيميائية والألسنية وتحليل الخطاب،،، الخ، ولم يُخفِ أساطين تلك الموجات نزوعاتهم الآيديولوجية بأيّ شكل من الأشكال؛ بل بلغ الأمر مبلغاً باتت معه البصمة الآيديولوجية لمعظمهم ميداناً للمباهاة واعتبار الأمر فضيلة ثقافية كبرى تميزهم. الآيديولوجيا قرينة الصراع الفردي والجمعي، ولايخفى علينا التأثير الذي مارسته آثار الحرب الباردة ومحاولة القوى العالمية العظمى (تجيير) الأنساق الفكرية ذات المحمولات الآيديولوجية كأداة من أدوات السياسة الناعمة في لعبة التنافس والصراع العالمي الذي كان يسعى لمركزة النفوذ السياسي والمالي على مستوى العالم. يمكننا هنا ملاحظة حجم التوصيفات الدرامية المتعاظمة التي لطالما وُصِفت بها تلك الأنساق الفكرية؛ فبعضها ثوري مفرط في الرومانسية الثورية، وبعضها الآخر يتعامل مع الواقع بمنطق المادية الخشنة، وبعضها يميل لتوظيف نتائج أنثروبولوجية أو لغوية أو سايكولوجية محدّدة ومن ثمّ يعمل على تضخيم أدوارها (بالمقارنة مع نتائج غيرها) لتوجيه الفكر الإنساني نحو مسارات محدّدة تخدم مصالح صانع القرار ذي التوجهات المتحكمة بالجغرافيا الثقافية العالمية.
إنّ الترابط المتزايد بين العلم وتطبيقاته التقنية الثورية من جهة وبين الفردانية الشخصية بات المركّب الآيديولوجي الذي يسم عصرنا هذا، وهو مركّب خليق بتحرير الطاقات الخامدة في بيئتنا العربية وبخاصة أنّ هذا المركّب الآيديولوجي يختلف نوعياً عن المرجعيات الآيديولوجية العتيقة؛ فهو يتعاشق عضوياً في جانب منه مع الإنعطافات العلمية والتقنية التي أصبحت عرضة للتغيير المستديم المستعصي على الإنعزال أو الثبات في نسق جامد، ومن جانب آخر فإنّ الوسائل المادية التي تدفع لتعظيم كفاءة هذا المركّب الآيديولوجي الحركيّ (مثل الحواسيب ووسائل الإتصال ومنظومة السوفتوير ذات التطبيقات المختلفة... الخ) غدت يسيرة متاحة بأثمان تواصل انخفاضها كل يوم؛ وعلى هذا أصبحنا نعيش زمن التخلي عن الآباء الآيديولوجيين وهذه حقيقة نعيشها ونتفاعل معها، وستتيح لنا فرصاً مهمة لإحداث تطور حضاري مشهود في بلداننا التي لطالما افترستها الآيديولوجيا.
لنختصر الخارطة الآيديولوجية بالعبارة التالية: لم تختف الآيديولوجيا بقدر ماصارت مقترنة بالمنجزات العلمية والتقنية، وهذا أمرٌ حسن لأنّ التغيير وتدوير الأفكار خصيصة أساسية للعلم والتقنية. لم تعد الآيديولوجيا أفكاراً يوتوبية خالصة.
هل مضى الأمر بسلاسة؟ كلا. شهدنا جميعا خلال العقد الماضي نكوصاً نحو أنساق آيديولوجية عتيقة تذكرنا بالأصوليات الدينية المتناحرة. حصل الأمر في عالمنا العربي مثلما حصل على مستوى العالم. دعونا نشخّص الحال بأمثلة حقيقية:
في عالمنا العربي، وبدلاً من أن تشيع الديمقراطية المعرفية والوصول الحر لملايين الكتب والموسوعات والمجلات والدوريات نمطاً متزايداً من إنفتاح الفكر على جبهات معرفية جديدة بتنا نرى تكريساً لخطابات أصولية متيبسة. هل لاحظتم شيوع ظاهرة "الذباب الالكتروني" الذي يكشف عن أبوة آيديولوجية متزايدة قد يكون دافعها العمى الآيديولوجي أو المصلحة الذاتية أو الاثنان معاً. أحد الدعاة الاصوليين /الحداثيين صار يروّجُ لماركة تجارية للدجاج!!
الحال ذاته في العالم وإن تفاوتت المقادير والأمكنة. أنظروا ما حصل في الانتخابات الرئاسية الامريكية السابقة عام 2020، ومايحصل اليوم في الانتخابات النصفية للكونغرس 2022. نحنُ في مباراة سياسية أقلُّ ماتوصف به أنها مثالٌ نموذجي للبلطجة والبذاءة. سيقول قائل: هذا هو حال السياسة الامريكية منذ عرفناها. الجواب: نعم صحيح، هذا هو حالها؛ لكنّ الفرق أنّ السنوات الأخيرة كشفت لنا إنتقالاً مفجعاً ولاأخلاقياً لمناسيب الصراع وأشكاله من الدوائر الجمعية إلى السياسيين الأفراد. لم تعد مؤامرات السلطة احتكاراً خالصاً لأفراد من جمهوريات الموز بل صرنا نشهدها في أمريكا ذاتها.
عقلٌ ملوّث بالآيديولوجيا هو مفسدة؛ فكيف سيكون حال العالم وحالنا لو إرتبط العقل الآيديولوجي بصراعات المال والنفوذ والسيطرة وصار حرباً بذيئة بين أفراد سفهاء غارقين في مستنقع الفساد؟
قد لانشهد هرمجدّون حقيقية عمّا قريب أو بعيد؛ لكننا غارقون في دوامة هرمجدّون أخلاقية توهنُ العقل والروح وتغتالُ حساسيتنا الاخلاقية وتحيلنا كائناتٍ هزيلة لاتنتج سوى الخواء.