جمال العتّابي
لم تكن في حياته كلها قصة حب، ولم يقترن اسمه في يوم من الأيام باسم امرأة واحدة، بل ان المرأة لم تدخل قلبه، ولا حياته، حبيبة أو زوجة، أو ( موديلاً مفضلة)، عاش يرسم ويرسم، ولا شيء في حياته سوى عالم اللوحات والألوان.
ان أول انطباع توحي فيه أعماله الفنية، انه كان فناناً بوهيمياً ليس لمغامراته النسوية أولاً ولا آخر، تضج لوحاته بالنساء العاريات في الحمام، وفي الفراش، وراقصات الباليه الصغيرات، ومغنيات المقاهي الباريسية، في حين لم تكن في حياته قصص اثارة. كان مختلفاً عن الرسامين الكلاسيكيين الآخرين واختار لنفسه موضوعات جديدة لم يطرقها غيره، وتخصص في رسم الباليه والراقصات الصغيرات الرشيقات وهن يتدربن، يلبسن زي الرقص، هن يسترحن، أو يرقصن على المسرح، وكانت طريقته في رسمهن جديدة أيضاً، لأنه كان يختار زوايا غريبة، كان ينظر الى الرقصات من مقصورة مرتفعة في دار الأوبرا حيناً، ومن وراء الكواليس حيناً، ومن وراء ظهورهن، وهن يرتدين ثيابهن، ومن مواقف أخرى مبتكرة.
شغف ديغا بعالم سباق الخيل، لم يكن مراهناً، بل مولعاً بحركة الجياد، والفرسان، مفتوناً بالألوان، وتفاصيل الجسد، وكغيره من معاصريه الفرنسيين في القرن التاسع عشر، تأثر بفن الرسم الياباني الذي سحر باريس حينذاك، أخذ من هذا الفن خطوطه الواضحة التي تحدد الشكل تحديداً قاطعاً، وطريقة رسم الاشخاص المتجاورين في تداخل أشكالهم، وعن التصوير الفوتوغرافي أخذ الصورة المقرّبة أو مايسمى بلغة السينما close- up والصور الخلفية back ground الضبابية، كما اعتنى ديغا بالتفاصيل الحادة الدقيقة.
ولد الفنان في باريس 1834 لأسرة عريقة تتمتع بالثراء والثقافة، والده يدير أحد المصارف، كان الطفل ذكياً جاداً شديد الحساسية، وفي سن صغيرة جداً بدأت تظهر اهتماماته: يحب القراءة حباً شديداً، والموسيقى، شغوفاً بالألوان وطريقة استخدامها وتناسقها، وفي المدرسة كان تلميذاً مجتهداً، يهتم باللغات، وعندما التحق ديغا بمدرسة الفنون الجميلة في العام 1855 لم يرافق زملاءه في لهوهم غير البريء بل تجاهل (البنات) بصورة تدعو الى الدهشة والاستغراب، وانكبّ على القراءة بشغف شديد، اهتم بتاريخ الفن، واساليب الرسم ومدارسه، وتقنياته، واستغرق كثيراً في (الكوميديا الالهية) لدانتي.
زار ايطاليا ومدنها القديمة ومعابد الفن فيها، هناك وجد الالهام، في آثار الفن المسيحي القديم، والنماذج البديعة للموزائيك ونحت القرون الوسطى الرائع. في الفريسكو ورسوم عصر النهضة، وهناك درس بعمق وحب شديدين أعمال واحد من أربابه واساتذته رافاييل العظيم.
بدأت تحولات ديغا من الكلاسيكية والنظريات الاكاديمية وهو مايزال شاباً، نحو نظريات الرسم الحديثة، بدأ يتأمل مشاهد الححياة في يومه وفي مدينته، ذهب ميدان سباق الخيل، ورسم لوحاته المشهورة عن السباق، كان يسجل ما يراه في (اسكتشات) على الطبيعة، ثم يذهب الى مرسمه ليضع نماذج مصغّرة للجياد، ويرتبها حتى (يرتاح) الى شكل اللوحة ثم يرسم.
كانت هذه طريقته في الرسم تعلمها على يد استاذه الرسام (انجريس)، كان وقتئذ يبلغ الخامسة والثمانين، حين أسدى النصيحة له التي حرص عليها ديغا واتبعها طوال حياته : ارسم خطوطاً كثيرة جداً، من الطبيعة ومن الذاكرة، وستصبح بعد ذلك رساماً عظيماً.
كانت الفترة الواقعة بين 1873- 1883 أغنى فترة في حياة ديغا، فيها تغيرت موضوعاته، وتنوعت، رسم المقاهي، والمسارح، وبيوت الليل ولاحظ الحياة الغريبة فيها، ورسم لوحات صادقة ونادرة لأدق مظاهر الحياة فيها، حاول أن يكون شاعراً أيضاً فنظم عشرات القصائد، كان الشاعر الفرنسي ( مالارميه) يساعده ويراجع نصوصه، ويصححها أحياناً.
عندما تجاوز ديغا الأربعين من عمره بدأ يعاني من اعتلال صحته، كان يشكو ضعف بصره، ومن المصادفة ان مايكل انجلو كان يشكو العلة نفسها، مثله يحيا في عزلة، هربا الى الأدب والفلسفة كلاهما كان يتوقع الموت في سن مبكرة، لكنهما عاشا حياة طويلة مثمرة.
كان لدى ديغا شعور بالحيرة والقلق، لم يحب الاستقرار، ظل يتنقل طوال الوقت من حي الى آخر في باريس، يتجول في شوارعها لساعات طويلة، وعلى الرغم من أنه أصبح ثرياً بعد عام 1892،الا انه لم ينفق على مظاهر الترف الا الشيء القليل، في حجرة نومه كان يضع لوحة من لوحات الجريكو يعلق عليها ثيابه ليلاً.
في آخر حياته كان حزينا واجماً منقبض الصدر، الوحدة قادته الى الفضاضة وسلاطة اللسان، كان يشعر بالمرارة لأن اصحاب مزادات الاعمال الفنية يربحون كثيراً من بيع لوحاته، كان يصف نفسه بأنه الجواد الذي فاز بالسباق ولكنه لم ينل شيئاً من فوزه.
بعد وفاته في أيلول 1917، وجدوا في بيته كتابا يتضمن قصة(بيير وجان)، كتب عليها المؤلف بخط يده كلمة الإهداء التالية :
إلى أدغار ديغا...
الذي رسم الحياة كما كنت أود أن أرسمها أنا...
توقيع: غي دي موبسان