ستار كاووش
في العاشرة صباحاً، سلكتُ شارع بودابست المحاذي للبيت الأحمر الذي أقضي فيه إجازتي في دريسدن، متجهاً الى وسط المدينة، وما أن وصلتُ الى ساحة السوق القديم، حتى إنفتحت المدينة كإنها متحف كبير يلتحف البنايات والتماثيل وحتى المارة.
توغلتُ بين بعض الشوارع الصغيرة حيث بدأ عمال المقاهي يستقبلون الزبائن ويُهيؤون الطاولات في الخارج، حتى لاحتْ لي عازفة فلوت تقف بمحاذاة تمثال أوغست وتعزف مقطوعة من موسيقى فيلم (حدث ذات يوم في أمريكا) تباطئتُ عندها قليلاً ووضعت يورو في حقيبة الفلوت المفتوحة أمامها، ثم أكملتُ طريقي يتبعني صوت الفلوت الذي تَبَدَّدَ خلفي مثل خيط دخان. مضت بضع دقائق قبل أن أجد نفسي واقفاً أمام دار الأوبرا التي برزت بعمارتها المذهلة التي إستُلهِمَتْ من طراز الباروك الإيطالي بأقواسها وأعمدتها والتماثيل التي تعلو واجهتها، وفي أعلى قمتها إنبثق نصب عظيم يطاول الفضاء، لرجل وامرأة يركبات عربة تجرها ثلاثة أسود. رفعت رأسي قليلاً ومرَّرتُ بصري على البنايات المحيطة بالساحة، وشعرتُ كإن فلورنسا العظيمة، مدينة دافنشي ومايكل أنجلو قد حطت هنا قرب نهر إلبَه.
بضع ساعات كانت كافية للتعرف على الكثير من ملامح المدينة وتفاصيلها، جسورها، أبنيتها القديمة، شوارعها الواسعة وساحاتها المرصوفة بالحجر. في الظهيرة إخترتُ إحدى الأرائك التي تطل على نهر إلبَه الذي يقطع المدينة من وسطها ويقسمها الى قسمين أعادا الى ذاكرتي حكاية دجلة الخالد الذي يغفو بين كرخ ورصافة بغداد. جلستُ متطلعاً الى الجانب الآخر من المدينة، وقد تناهت لسمعي أصوات مجموعة من الشباب الذين يحتفلون في زورق صغير توسطته طاولة مليئة بالطعام والشراب، يقطعون النهر تحت أشعة الشمس التي بدأت تشق طريقها بين بعض الغيمات لتدفيء المدينة وتمنحها بعض الحركة، فيما كان بعض الرجال يهيئون على العشب المحاذي للنهر من الجهة الأخرى مناطيد هواء ضخمة لإطلاقها في الفضاء، والناس يقفون بإنتظار دورهم للتحليق.
كل شيء هنا يفصح عن تاريخ عظيم لمدينة تشبه معرضاً للعمارة والنحت في الهواء الطلق، وكل زاوية تعكس بصمات الزمن وتُشير الى الناس الذين إجتهدوا في صنع هذا الجمال. تجولتُ بين الساحات والحدائق والشوارع، وتحسستُ بيدي تماثيل المدينة الأسطورية، وفي نهاية الجولة، عدتُ لأقف أمام تمثال فريدريخ أوغسطس الأول، أو كما يسميه الألمان (أوغسطس القوي)، فنظرتُ الى ملامح الرجل الذي أسس هذه المدينة وشيد كل عظمتها، بدا مهيباً بجلسته، متكئاً بإحدى يديه على كتاب ضخم كإنه سجلاً لتاريخ المدينة، وباليد الأخرى يمسك صولجاناً، وقد أحاطتْ بقاعدة النصب أربع تماثيل لنساء جميلات يمثلن القوانين التي بُنيت عليها دريسدن. حييته برأسي وكإني أشكره لأنه منحنا كل هذا التاريخ وساهم في صنع هذا الجمال الذي أقفُ وسطه الآن منبهراً.
إقتربَ المساء، فقطعتُ شارع بودابست من جديد عائداً الى مكان سكني، وعند وصولي رأيتُ هولكر النحات، صاحب النزل وهو يدفع عربة صغيرة مليئة بحطب المدفأة. لم أكن قد رأيته البارحة، وها هي فرصة طيبة للتعارف. بدا هولكر في منتصف الأربعين من عمره، بشعر أشقر قصير ووجه ممتليء وملامح ودودة، وبملابس العمل التي يرتديها إكتسبَ مظهر حطابي الغابات. توقفَ مبتسماً عند رؤيتي وأوقف العربة، قبلَ أن ينزعَ أحد قفازيه ويصافحني مرحباً. تحدثنا قليلاً بعد أن أشرت له ممتناً بمطوية خارطة دريسدن التي كان قد تركها لي على الطاولة، وأخبرته عن دهشتي بجمال هذه المدينة الرائعة، وٍأبديتُ إعجابي ببيته وجماله القديم وفكرة تحويله الى نزل، فأخبرني كيفَ إن البيوت التي كانت موجودة هنا قد إنهارت كلها بقنابل الحرب العالمية الثانية، إلا هذا البيت الذي حالفه الحظ وبقي واقفاً، وأكمل مازحاً (كإنه كان ينتظرني، حيث جئتُ من برلين وإشتريته قبل عشر سنوات) ضحكنا، ثم أراني بعض منحوتاته التي توزعت في الحديقة. وقبل أن أصعد، أخبرته بأني أود أن أعطيه نسخة من الكتاب الذي يحمل لوحاتي، وإتفقنا أن أضعه له قرب الباب. وضعتُ الكتاب هناك بعد أن كتبتُ عليه إهداءً للتذكار، وعدتُ من جديد أتفحص خارطة المدينة لأهيء نفسي لما سأشاهده غداً. بعد مرور ساعة، سمعتُ الجرس، ففتحتُ الباب وإذا بهولكر وزوجته وإبنته الصغيرة قد جاءوا لشكري على كتابي الجميل (حسب قولهم) وقد مدت لي زوجته علبة مليئة بأقلام التخطيط، قائلة ( لديَّ محلاً لبيع أدوات الرسم وسط المدينة، وهذه هدية بسيطة لك، كتذكار منا) فرحت كثيراً بهذا الإهتمام، ووعدتها بأني سأرسم بهذه الاقلام أشياءً جميلة.