طالب عبد العزيز
لم يخض الباحثون في تباين مدن البصرة جغرافياً واجتماعياً وثقافياً، وصاروا ينظرون لها بوصفها وحدة واحدة فيما هي غير ذلك، فالقرنة لا تشبه الزبير، وابو الخصيب أو الفاو مختلفتان عن القرنة والزبير، هناك تركيبة اجتماعية وطباع وعادات جعلت من كل مدينة ذات خصوصية لا تشترك معها بأخرى، ولو أنعمنا النظر جيداً لوجدنا إختلافاً واضحاً بين سكان ضفتي النهر(ابو الخصيب وناحية شط العرب) الموحدتين بالماء، والمشتركتين بالانتماء القبلي كذلك.
ولتاكيد ذلك فقد تحدث الجاحظ (ت 255هـ) في (بخلائه) بما يفيدنا بقوله بأنَّ أحد شيوخ الابلة كان يزعم أنَّ فقراء اهل البصرة افضل من فقراء اهل الابلة، لانهم اشد تعظيما للاغنياء، واعرف بالواجب، ويروي الحكاية هذه: "يكون الزائرُ من اهل البصرة عند الابلّيّ مقيماً، مطمئناً، فاذا جاء المدُّ قالوا ما راينا مدَّاً قد ارتفع ارتفاعه، وما اطيبَ السَّيرَ في المدِّ، والسيرُ في المدِ الى البصرة أطيبُ من السير في الجَّزرِ الى الأُبلّة، فلا يزالون به حتى يرى أنَّ الرايَ أنْ يغتنم ذلك المدَّ بعينه". ومع أنَّ الرواية تفيد في حسن التخلص من الضَّيفِ (البصري)عند بخل المُضيِّفِ(الأبلّي) البخيل إلا أنها تكشف لنا عن مدينتين متباعدتين، واحدة في الاعلى وثانية أدنى منها، يفصل بينهما الماء، على اشتراكهما فيه.
ولا يقف الجاحظ عند ذلك إنما يذهب الى التفريق بين مأكولات أهل الابلّة ومأكولات أهل البصرة. فهو يفرق في الأطعمة والأشربة:" هناك الرّطبُ السُّكّر والجسيران الاسود والهيرنر والبرنيّ.. وواضح ان هذه الموائد قد حفلت بها موائد اهل الابلة اما موائد البصرة فقد حفلت بانواع التمر والسَّمن السِّلاء واللحوم المشوية والمقلية". وحين ننظر في موائد أهل الزبير سنجد اللحم أولاً ولا نجد للسمك اسماً وطعما، على خلاف موائد أهل القرنة الحافلة بالسمك والطير، أو أهل أبي الخصيب والفاو حيث يكون السمك أولا ويتراجع غيرها. ويصح قولنا بأنّ الجمل معلوم في الزبير معدوم في القرنة، وكذلك يكون حال الجاموس والبقر.
في كتابه (تاج اللغة وصحاح العربية) يكتب أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري(ت ٣٩٣هـ):" البصرة بلد معروف، وكانت تسمى في القديم (تدمر) والمؤتفكة لأنها ائتفكت باهلها، أي انقلبت، في أول الدهر" وتدمر عند أحمد كمال زكي(العصور الادبية في البصرة) ليست إلا قلب لـ "تردم" وهذه هي "تِرِدُنْ) Teredonعلى نحو ما يقول العلامة هارتمان. إلى جانب الرواية هذه تقف رواية المثنى بن حارثة الشيباني الذي خرّبَ "وهشتاباذأردشير" بشن الغارات عليها، فلما قدمها العرب سموها "الخريبة" ويبدو أن التسمية الفارسية لم تطلق عليها إلا بعد أن استكمل الفرس بناءها من جديد، كما فعل اليونانيون حين استقروا في ذلك الاقليم، عقب غزو الاسكندر فأطلقوا عليها تردن أو تريدون، في الوقت الذي بنوا فيه ميناءها "الابلة».
هناك لبس في قضية بناء البصرة يكمن بأعتقاد الكثير ممن كتبوا عنها بأنَّ مدينة الأبلة القديمة، التي كانت مرفأ للسفن القادمة من الصين قد أختفت، وأنتهى أمرها، بعد بناء البصرة الجديدة، على يد عتبة بن غزوان سنة 14 أو 16 للهجرة. ويسود عند البعض اعتقاد بأنَّ الابلة أو (الخريبة) هي مدينة صغيرة وبسيطة، بلا منازل ولا اسواق ولا طرقات ولم تكن حاضرة المرفأ، ولم يغتن سكانها من تجارتها وغلاتها.. لكنها عند ابن خلدون غير ذلك تماماً فهو يكتب:" دخل المسلمون الابلة، فغنموا ما فيها، واقتسموه، ثم جمع لهم أهل دست ميان فلقيهم عتبة، فهزمهم، وأخذ مرزبانهم اسيراً، وأخذ قتادة منطقته(ما ينتطق به الفارس) وبعث بها الى عمر، وسأل عنهم فقيل له: انثالت الدنيا عليهم، فهم يهيلون الذهب والفضة، فرغب الناس في البصرة فأتوها". وهنا يحق لنا أن نسأل، ترى، من أين أتى العرب المسلمون بهذه الاموال، وكيف انثالت الدنيا بالذهب والفضة عليهم بدخولهم (الخريبة) هذه؟ ألا نرى بأنَّ الجيش العربي المسلم إنما دخل مدينة عامرةً، غنيةً، فيها من المال والتجارة والاسواق والناس ما تعتمده الحياة في كل عصر ومكان؟
وبإفتراض أنَّ الأبلة خربت بالكامل. ترى الى اين ذهب ناسها؟ وعندما استتب للمسلمين أمرها ألم يقض الحاكم المسلم بعودتهم الى مدينتهم، والعيش فيها اسوة بسكانها الجدد، ألم ينتقل بعضهم الى المدينة الجديدة التي بناها المسلمون، بما عرف عنهم من رحمة، بحسب وصية الخليفة عمر؟ أسئلة كهذه تطلعنا على مدينة استسلمت، بعد أن انهزم جيشها، وسلمت أمرها للحاكم الجديد، لكنَّ سكانها بمختلف أقوامهم من (العرب والفرس والهنود والزط والنبط والسيايجة والزنج ووو) لم يبادوا عن بكرة ابيهم بكل تأكيد، إنما اضطروا للإندماج في نسيج المجتمع الجديد، الذي وجدوا انفسهم فيه، أو انتموا الى الدين الذي اظهر الرحمة لهم، مثلما يحق لنا أن نسأل عن مدى تأثير هؤلاء الاقوام المتحضرين والاغنياء في ثقافة العربي المسلم الفاتح. وبهذه سنقع على بصرتين أو أكثر، هي نتاج التلاقح ذاك، والذي مازال يشير والى اليوم الى التباين والاختلاف بين ضواحي المدينة.