طالب عبد العزيز
منذ سنيِّ معرفتنا الاولى أخذتنا وثائقُ وشخصياتُ الحزب الشيوعي العراقي الى أكثر من فضاءٍ وحُلم، وظلَّت تتناغم مع تطلعاتنا وأفكارنا في نيل الحرية، والعلم، وترسيخ قيم الجمال، فضلاً عن القاعدة التي اسسَ لها، والمتمثلة ببناء الدولة المدنية، المتحضرة، المنتصرة للانسان ووجوده، بوصفه رأس المال الاثمن.
بين هذه وتلك، وجدنا أنفسنا منجذبين الى شعاع الامل العظيم ذاك، خائضين معركة طويلة، لم تنته بعد، غبارها الحرية، واسلحتها النور ، وتكمن عظمتها في رسوخها بوجدان الناس.. ومن أجل ذلك تعرَّضنا للتغرب داخل الاوطان وخارجها، والى التعسف وأنواع الظلم والايذاء والملاحقة والسجن والموت أحيانا.
لا أشخصنُ، ولا أدّعي بطولةً ما، أبداً، فقد سبقني الى ذلك من أضاءوا الطريق بدمائهم، وتناثرت أشلاءهم شجيرات نور وطهر، لكنني أنحاز الى مقولة الشاعر معين بسيسو في سبعينات القرن الماضي:” الحزب الشيوعي العراقي رئة من شعر” يوم كانت تهمة الشيوعي تُلحق بكلِّ مثقف عراقي، والثقافة باعتقاد العامة صنعةٌ لا يُحسنها إلا االيسار العراقي، الممثل بالحزب، على ما في الجملة من تعظيم وكبرياء، لكنْ هكذا كان تصوّر الناس في العراق عن الثقافة وقرينتها الحزب، فما من مجلس يُعقد للحديث عن الشعر والفن والفكر، في نقابة، أو اتحاد، أو تجمع، أو مقهى إلا وكانت الافكار العلمية التقدمية هي رائدته، فترى الناس مشرئبة الاعناق، متلطعة، الى ما يُطرح ويُقرأ ويسمعون، لأنها تصبُّ في الهوة العميقة الشاغرة في نفوسهم، فتنعشها أملاً بما سيأتي.
يحزُّ في نفسي أنْ أحضرَ مجلساً في البصرة(ملتقى جيكور) يمتُّ بصلة ما الى الحزب الشيوعي العراقي، الذي عرفته قبل نصف قرن، المتطلع الاول للحرية والمدنية والتحضر، ومخيبٌ للآمال أنْ تكرس إحدى جلساته لقراءة الشعر العمودي، ولسيدةٍ مبرقعة – بزيٍّ أسودَ، كالذي ترتديه النساء السعوديات- أحترمُ خيارها في ما تلبس- وهي سيدة محترمة بكل تاكيد - لكنني رأيتُ أنها وجدت في المكان الخطأ، فصاحبُ الزيِّ الاسلامي هذا وقارئ الشعر العمودي يجد كينونته وحريته في أمكنة كثيرة، تتناسب مع هيئته وجوهره، أما في قاعة هندال، وداخل مبنى الحزب الشيوعي فهذا أمرٌ مقحمٌ وبحاجة الى تسويغ وتبرير القائمين عليه. حين كتب السياب قصائده الحرة كان شيوعياً.
يثني مقدِّمُ الحفل(الشيوعي) على القراءة، ويكيل من المديح ما عنَّ له وطرب له، ومن ثم يعقّب آخرون(شيوعيون وغيرهم) كلٌّ يقرأ ديباجته وقصيدته، في مديح شعر السيدة مرة، وأخرى في مديح نفسه، وأحياناً بما لا علاقة له بالمحتفى بها، وهكذا، ظلت المنصَّة تمتلأُ وتشغرُ بالاسماء، فينتدبُ مقدِّمُ الحفل شاعراً وناقداً يخلع عليه لقباً اجتماعياً بالياً، يعيدنا به الى زمن الاقطاع والسراكيل، ولم تخلُ الساحة من النقد فقد كانت له حصته هنا وهناك، وتصدّى أكثرُ من فاحص وناقد للقصائد التي قرأت، وأشبعت بحثاً. متجاهلين ترفع النقدية العراقية عن تناول الشعر العمودي، بما فيه شعر عبد الرزاق عبد الواحد وأبنائه(الميامين) من السابقين والتابعين، منذ أكثر من سنواتٍ خمسٍ وثلاثين .
الشعر ياقوم، خارج مكان قراءته وحضور أتباعه، هو إفصاح وإسفار وكشف وتجلٍّ وتنوير وإضاءة، لا يُسمع من وراء الحجب والاقنعة والالقاب، فما انتفاع الناس بالشعر إن لم يكن دالةً لهم على الحرية، ولا أستثني حرية الجسد والفم والعين والاذن والقلب والعقل والروح، أين نحن من ذلك في ما نرى ونسمع؟ أمّا إذا كان المنظّمون يبحثون عن ما يسدّون به الشاغر في برنامجهم الاسبوعيّ أو الشهري، فلن يكون ذلك قطعاً على حساب الحزب، وفكره العلمي التقدميِّ، والصورة المثالية المطبوعة باذهان الناس عنه أولاً، وما بناه وأسس له رجالُه في الارتقاء بذائقة الشعب الذي ظلَّ يسعى والى اليوم، متطلعاً الى ما يعزز من وجوده، والتخفيف من غربته ثانياً. ما هكذا تُعقد صلاتُ الحزب بالثقافة.
الغريب في الأمسية تلك هو تعليق يافطة على أحد جدران القاعة تقول(... معا لبناء الدولة المدنية الديمقراطية) لستُ أول من يرى في القصيدة العمودية موقفاً رجعياً من التحضر والمدنية والوعي، لكنني لن أكون الاخير في ركب الذين يرون في الحزب الشيوعي العراقي أملهم في إشاعة وترسيخ قيم الجمال والحرية. لا للتفريق بين الحزب تنظيماً والثقافة مشروعاً تنويرياً. وليبحث عن مكان آخر من يريد خداع الجمهور عبر الثناء المُفرّغ من معناه .