لطفية الدليمي
الفيسبوك = المقهى الافتراضي. لاأحسبُ أنّ أحداً يتقاطعُ مع هذه المعادلة. صار الفيسبوك أقرب إلى مقهى يعجُّ بضروب شتى من الزائرين. ليس مَنْ يطلبُ شاياً أو قهوة. أستُبدِلت المشروبات بقراءة أفكار الآخرين وتفحّص مكنونات دواخلهم أحياناً،
وفي أحيان أخرى ليس مطلوباً منك أكثر من المرور غير الفعّال: أن ترى من غير أن يستشعر الآخرون وقع بصماتك الرقمية. الفيسبوك وحده يستأثر بهذه الخصيصة – خصيصة أن تصنع لنفسك مساحة ذات عنوان يشير إلى صفاتك الذهنية والنفسية. تويتر – مثلاً – تنتفي فيه هذه الميزة ؛ فهو منصة متنوعة يؤمها الشباب غالبا للتعليق على الاحداث الآنية ويكشف فيها بعضُ المؤثرين في صناعة المزاج العام - عن بعض أفكارهم في كلمات معدودة كما مثاقيل الذهب. تويتر منصّة برقيات سريعة؛ أما مع فيسبوك فالامر مختلف: ثمة أنماط وتشكلات فكرية ومجتمعية يمكن أن يلحظها كلّ متابع مدقق بسوسيولوجيا التواصل الاجتماعي.
النمط الفيسبوكي الغالب هو الفيسبوكي المكتفي بنفسه. الاكتفاء بالنفس هنا ليس كناية عن أنانية أو خصلة معيبة؛ إنها توصيف فحسب. أنا وكثرة من الاصدقاء ننتمي لهذا النمط. الفيسبوكي المكتفي بنفسه قد ينشر بعض (البوستات) التي تعكس مايدور في ذهنه لحظياً تجاوباً مع سؤال الفيسبوك (ماالذي يدور في ذهنك؟)، وقد ينشر أحياناً بعض كتاباته أو مانُشِر له في صحف أو مجلات، وتراه يعلّق على أصحابه الفيسبوكيين ويتجاوب معهم ؛ لكنه في نهاية المطاف يبدو كَمَن ينثر البذار في الأرض من غير انتظار نتائج محسوبة. إنه كمن يلقي كلمته في الجموع ويمضي من غير أن ترتسم في ذهنه خريطة مسبقة لما يجب أن تكون عليه صفحته الفيسبوكية. صفحته مثل واحة استجمام فكري ومعرفي واجتماعي من دون إسهاب حكواتي أو ثرثرات نوستالجية. دعونا لاننسى: الثرثرة الفيسبوكية ليست عيبا طالما بقيت تخدم أغراضاً نفسية من غير إيذاء الآخرين.
لدينا ثانياً نمط المقهى الفيسبوكي. ليس أمراً غريباً أن نعثر بين فينة وأخرى على حساب فيسبوكي يسعى صاحبه لجعله حفراً في خزانة الذكريات، واستعادة لظروف ووقائع محدّدة. يطرح مثل هذاالشخص نفسه قطبا يتحلق حوله بعضٌ من أقرب زملائه وخلصائه. وعادة يستذكر القطب واقعة ما، ثم يأتي دور الزملاء في الاضافة وتعزيز الواقعة باستذكارات إضافية ربما تكون غابت عن ذاكرته أو أنه لم يعرفها أصلاً. يشترك هؤلاء الفيسبوكيون في أنهم كانوا - في العادة – زملاء سابقين في وظيفة أو مهنة ما. يتفاوت المستوى الفكري للموضوعات المطروحة: قد تكون وقائع مجرّدة ليست أكثر من استذكارات تحرّكها نوستالجيا طبيعية إلى أزمان مضت، وقد ترتفع إلى مصاف التعليقات التي تسعى إلى استخلاص قانون عام من جزئيات وقائعية صغيرة.
لدينا ثالثاً نمط النافذة الثقافية العالمية. هناك من يعمل جاهداً على تقديم مايتاح له في إطار الممكن من محتوى إخباري وثقافي وفكري عالمي لأصدقائه الفيسبوكيين، وأحسبُ أنّ الصديق الكاتب عامر هشام الصفار ينهضُ بأعباء هذا النمط بكلّ نبلٍ. منذ سنوات عديدة يعملُ الدكتور عامر الصفار على تلخيص محتويات الصحافة البريطانية – يومياً أو أسبوعياً – وتقديم هذا الملخص في إطار فكري جذاب. ثمة ميلٌ لديه إلى المحتوى الطبي لكونه طبيباً ؛ لكنّ هذا الميل لايتغوّل على حساب الشغف الثقافي العام.
رابعاً، لدينا نمط المنصة الفكرية. شكلٌ رقمي مقابل لما كان يحصلُ في (أغورا) الاغريقية. في العادة يكون القائمون على مثل هذه المنصّات الفيسبوكية أشخاصاً ذوي قدرات فكرية متقدمة، يدفعهم شغف عظيم لاستكشاف مجاهيل معرفية خافية عنهم، ولديهم في الوقت ذاته رغبة جامحة لمراجعة تاريخهم الفلسفي والفكري وعرض نتائج هذه المراجعة على الآخرين من غير خوف أو نكوص أو تردّد. تكاد تلمح في كتاباتهم رسالة مضمرة عنوانها (هكذا كنتُ، وهذا مايحصل لي الآن، وكلّ الممكنات مفتوحة على مستقبل حافل بمتغيرات ليس لي من سبيل لمعرفتها سوى بتحسس بعض آثارها من بعيد). إنهم أشخاص يريدون تحريك مكامن التفكّر لديك وعدم المكوث في قعر الثوابت القاتلة. لو سُئلتُ عن مثال نموذجي لهذا النمط الفيسبوكي سأقولُ أنه الصديق Gilgamesh Nabeel Sedqi الذي يحفل حسابه الفيسبوكي بمراجعات وطروحات فكرية رفيعة أتمنى أن يسعى لتحويلها إلى سيرة ذاتية مكتوبة.
منصات التواصل الاجتماعي ليست ترويجاً للتفاهة. نحتاجُ أولاً أن نتفق على تعريف إجرائي – بمعنى قابل للقياس والمقارنة -للتفاهة ؛ لكن في العموم أنت من تستطيع إضافة تفاهة لمنصات التواصل عندما تروّج للتفاهة وتستطيب التعليق على موضوعات تافهة، وفي المقابل تستطيع متى شئت تحويل حسابك الفيسبوكي إلى منصة للإثراء المعرفي، أو في أقل تقدير للمرح والاسترخاء النفسي وتبادل أحاديث عادية من غير إضرار بالآخرين. كل شيء ممكن تبعاً لحاجاتك النفسية وماتسعى إليه. يمكننا الاتفاق أنك لو كنت ملتزماً بجميل القول وبعيداً عن المناكفات غير المنتجة فستكون مواطنتك الرقمية صالحة. هذه هي نقطة البدء، وبعدها يمكنُ أن تكون مواطناً فيسبوكياً نزيهاً يسعى لإثراء مواطني الجمهورية الفيسبوكية علماً ومعرفة وخبرة مثلما يفعل كثرةٌ من الفيسبوكيين الطيبين والنبلاء.