طالب عبد العزيز
حين دعاني الروائيُّ وحيد غانم للكتابة عن القاص البصري غضبان عيسى(1952- اعدم 1983) قلت بأنَّ معرفتي به لا تسعفني، فقد مرَّ الرجلُ سريعاً بيننا، نحن الذين كنا نتخذ من مقهى عبد الله مجلساً، أقصدُ الشعراءَ والرسامين (حيدر الكعبي، جمال جمعة، عبد الزهرة زكي، جمال مصطفى، سلام عبود، صالح جادري، كامل حسين، مهدي الحلفي، جودت الونداوي، كاظم عاشور، رضا المشاهدة، أحمد عبد الرزاق، عدنان عبود..) ومعذرة ممن لم تحضرني أسماؤهم الآن.
إلا أنني، ما زلت أحتفظ بصورة هدوئه الحذر، وهو يعززها بحديثٍ يتوزع بين القصة القصيرة والخياطة والتصوير والموقف من النظام آنذاك.
نعم، كنت أزوره في محل الخياطة(خياطة التربية)المجاور لأستوديو فينوس(المصور آرام) والقريب جداً من مركز شرطة السعودية- وهو اختيار ذكيٌّ منه في تجنب رجال الامن-،وأشرب معه والبعض من خاصة أصدقائنا(حيدر، عدنان عبود) البيرة في ظهريات البصرة الحارقة، ونتحدث في مختلف المواضيع، كذلك كنت أشاهده حاملاً آلة التصوير في كورنيش شط العرب، لكنَّ أحاديثنا غالباً من تكون سريعة ومتقطعة، تبتسرها النظَّاراتُ السود والاحزمة المنتفخة بالمسدسات، ففي الفترة التي سبقت الحرب (1976-1979) كنت شبه مشرّد، مثله، لائذاً بأزقَّة وسينمات ومقاهي العشار، متخفياً عن أعين رجال الامن. أذكر أنني شاهدت فيلم (ساندوكان النمر) بسينما الرشيد أكثر من عشر مرات، بانتظار مجيء (رؤوف..)الطالب في جامعة البصرة، الذي لم يأت ليأخذني الى السليمانية.
حين قرأتُ كتاب(المزلاج الصدِئ) قصتان وعشر مقالات في ذكرى غضان عيسى، هذا الجهد التحريري، الذي بذله الشاعر حيدر الكعبي لم تستوقفني القصتان الوحيدتان فيه، أكثر مما توقفت عند الحقبةالصعبة(منتصف السبعينات حتى بداية حرب الثمانين) التي امتحنت جيلَنا، الذي تفتحت عيناه على تحولات اجتماعية وسياسية وثقافية مربكة، لم تنضج فينا بعد، نحن أبناء العشرينات، آنذاك، إذ، لم نكد نتمثل ما قرأناه وآمنا به، بل ولم نقوَ على امتلاك آلة الصدِّ في مقارعة بعض تداعياته، ولعل أسوأ ما فيه هو إعلان الجبهة الوطنية بين الحزب الشيوعي وحزب البعث(كنتُ التقي كثيراً مع غضبان عيسى في رفضها) هذه العَقد الغريب، غير الموصول بجوهره، لذلك كانت معاناةُ البعض منا أشدَّ واقسى، فأنتَ تتخذُ موقفاً ما من كيان تنتمي لجزئه الاكبر، يتعقبك فيه كيانٌ يدّعي أنَّك صاحبه.
لم يتطرق حيدرُ الكعبي في مقدمته الأهم للكتاب الى قيمة القصتين إلا بوصفهما وثيقة أدبية، وخطوات أولى لكاتب لم يمنح ما يكفي من الحياة ليفصح أكثر، لكنه عدَّ الاحتفاءَ به (انتصافٌ لجميع المبدعين من ضحايا النظام..) فهو يذكر اقرانَ غضبان عيسى من الشعراء والكتاب الذين أتى النظام ببلطته على السنوات الاجمل من حياتهم، فيذكر(عبد الجليل المياح وحسن مطلق ومهدي طه وخالد الامين ورياض البكري وعبد الجبار العيسى واحمد عباس المياح وفالح الطائي وعبد الجليل الزبيدي وقيس حيدر... تلك (الطاقات المدفونة قبل اوانها) وبهذه سيكون قد أجاب عن أكثر الاسئلة غرابةً، ومنح القارئ الحرية في تأمل التجارب تلك، أو ماذا ستكون عليه لو أنها أكملت مشوراها حياةً وكتابةً !
لم تمنحنا حياةُ غضبان القصيرة الوقوف إلا على قصتين قصيرتين(المزلاجُ الصدئ و الاقفاص) نشرتا في جريدة المرفأ البصرية بين العامين(1978-1979) هما فقط ماترك، مع شيءٍ من رسومات وتخطيطات، فقدت مع مافقد منه، بعد سجنه وإعدامه سنة 1983، لكنَّ الكتابَ جاء حافلاً بأقلام عشرة من الكتاب والشعراء(محمد خضير، محسن الرملي، ياسين النصير، جميل الشبيبي، لؤي حمزة عباس، محمد سهيل احمد، مقداد مسعود، محمد عبد حسن، وحيد غانم) الذين تناولوا الالتماعة القصيرة تلك(غضبان عيسى)ثقافيا وحياتياً، وكان بينهم من سلّط الضوء على الحقبة تلك، وهناك من فحص القصتين بعين النقد فدلنا على مواطن هامة في آلية تعامل غضبان مع الكتابة، وتأثير قدرته التصويرية في صوغ مادته القصصية.