لطفية الدليمي
قلّما ننتبه إلى حقيقة أنّ معظم أفكارنا ومعتقداتنا هي صناعة آيديولوجية خالصة. الآيديولوجيا بتعريفها الاجرائي هي كل مانقبله من غير أسس إختبارية في العالم الواقعي؛ أو بمعنى آخر مانسمّيه في الأطروحات الفكرية (النسق القائم على قبول ذاتي Belief – Based System).
الدين – طبقاً لهذا الفهم - آيديولوجيا، وكذا الفن والسياسة والاقتصاد وسائر المناشط الفكرية. ليس من تجربة مختبرية تقول لك أنّ أنّ الماركسية نظام متقدمٌ على الرأسمالية، أو أنّ هذا الدين أفضل من الدين الآخر، أو أنّ الاسواق الحرة عنوان التقدم الاقتصادي الحثيث. هذه قناعات أنت تقبلها أو ترفضها في أي وقت تشاء. حتى العلم الذي يفترضُ فيه أن يكون ضديداً طبيعياً للآيديولوجيا لاتخلو بعض ممارساته من رائحة الآيديولوجيا.
تترتبُ على الوقائع السابقة نتائج متفق عليها بحكم الخبرة والممارسة اليومية. هذه النتائج يجب أن لاننساها أو نتناساها تحت أي ظرف. يمكن تلخيص هذه النتائج في شكل متوالية منطقية أرسطية:
أولاً: كل آيديولوجيا هي شكل ميتافيزيقي من الخبرة.
ثانياً: كل إنسان هو كائن آيديولوجي بشكل من الاشكال.
ثالثاً: إذن، كل الناس هم ميتافيزيقيون، ومن الخطل إعتبار البشر كائنات عقلانية خالصة كل آن وفي كلّ الأمكنة.
الجرعة الميتافيزيقية مطلوبة للحياة مثلما أنّ الآيديولوجيا واقع حال لامفرّ من الاعتراف به. الحقيقة المترتبة على هذا أنّ الانسان يمكن له الترحّل بين الجغرافيات الآيديولوجية قريباً أو بعيداً لأنّ خرائط الآيديولوجيا تتغير دوماً، وأحياناً يكون التغيير مصحوباً بمظاهر عنفية مؤلمة. حتى الاخلاقياتُ Ethics التي لطالما حسبناها ميداناً يتعالى على الآيديولوجيا قد تكون مظهراً من مظاهر آيديولوجيا تطورية لانعرف عنها الشيء الكثير.
كانت هذه المقدمة الفلسفية ضرورية لتثبيت دعائم موضوعنا. دعونا الآن ندلفُ إلى عالم الوقائع الصلبة. أذكرُ فلماً سينمائياً للمخرج العالمي (يوسف شاهين) يخاطبُ فيه أحد الممثلين زميلاً له: " أنت عندما تكره بعد حب جارف ستكون كراهيتك لامثيل لها. ستكون بالمقدار الذي كانه حبك. أنت تريد من كراهيتك أن تكون تعويضاً لك عن حبك الضائع. المشكلة أنّ كراهيتك لن تنجح في إطفاء نارك ولن تؤذي من أحببته سابقاً.... «.
تبدو لي عبارة بطل شاهين توصيفاً دقيقاً لحال الكائن المسكون بالآيديولوجيا (وكلنا مسكونون بها بمقادير متفاوتة تبعاً لتدريبنا العلمي وأوضاعنا الاقتصادية ونظرتنا إلى الكون والحياة)، وإذا كانت الخيانة هي السبب الذي دفع بطل شاهين لتغيير بوصلة حبه إلى مؤشر الكراهية العمياء فإنّ وقائع محدّدة تحصل في بقاع بعيدة عنّا قد تكون كافية لتغيير محدّداتنا الآيديولوجية. نتوهم أحياناً أننا مريدون خلصاء لآيديولوجيا محدّدة تماماً مثلما يضبطُ جهاز ألكتروني على (وضعية المصنع)، ثمّ نكتشف كم نحن كائنات هشة تكفي خفقة ريح لتحويل أشرعتها الآيديولوجية بعيداً عن مسعى شروعها الأول. الهشاشة خصيصة ملازمة لكل آيديولوجيا، واليقين قرين القبول الأعمى من غير مساءلة، وليس في الهشاشة من منقصة. العلم الذي تتأسس عليه حياتنا المعاصرة هو المثال الأعظم لهشاشة الانساق الفكرية المتحولة دوماً.
باغتتنا كوفيد كما اعصار فكري وتهديد وجودي فانقلبت الافكار والامزجة الايديولوجية واختلطت حوابل اليسار بنوابل اليمين، ثم بعد أن هدأت حمى كوفيد قليلاً حلّت علينا الوقيعة الروسية الاوكرانية التي يمكن تسميتها حرب العوالم ضد روسيا البوتينية، وهنا زاد ضجيج البلبلة بعد أن فرضت مفاعيل هذه الحرب حضورها الطاغي على مائدة الأوربيين. من كان يتخيلُ أن يعاني البريطانيون نقصاً في بيض الطعام؟ أو أن يعاني الالمان صعوبة في توريد ورق التواليت؟ لكنّ هذا ماحصل وشهدناه جميعاً.
مثّلت واقعتا كوفيد والصدام الروسي – الأوكراني فرصة لبعضنا لمراجعة نسقه الآيديولوجي، وهذا أمر ممكن دوماً ؛ لكن أمراً لافتاً حصل في خضم هذه المراجعة: راح بعضنا ينزلق من اليسار الايديولوجي القصي إلى تخوم اليمين الراديكالي، متمثلاً دور بطل شاهين عندما استبدل حباً بكراهية. المثير في الامر أن تحصل هذه المراجعة تحت ضغط وقائع رآها بعضنا أقرب إلى الكفر بالكتب المقدسة أو إنكار المحرقة النازية. تساءلوا مثلاً: كيف يمكن أن ترتدّ الدول إلى جغرافياتها المحلية الضيقة في عصر يبشر بفرط العولمة؟ تعالت نظريات المؤامرة، ودفعت الوقائع الصغيرة لمراجعات كبيرة على كلّ الاصعد، وبعض المراجعات طالت تخوماً فكرية متقدمة على شاكلة مساءلة من نحن؟ وماحدود فردانيتنا النفسية والذهنية والمادية (البيولوجية)؟ وماشكل علاقتنا بما يسمى (الوطن) ونظرائنا من المواطنين؟ وأسئلة كثيرة أخرى.
تمهّلوا أيها السادة المتسائلون. تساؤلاتكم حتى إن كانت إشارة إلى نشاطكم الذهني المتقدّم لكنها تغفلُ حقيقة بدائية أولى: كلّ آيديولوجيا هي رفاهية فكرية في التحليل الأخير. هل يمكن أن يكون الجائع كائناً مؤدلجاً بشعارات اليمين أو اليسار أو أواسطهما؟ أنت عندما تشبعُ حاجاتك البيولوجية الاساسية تتاحُ لك حينها رفاهية التفكر الذي لاينشغلً بنداء المعدة الجائعة أو الجسد العليل أو عوامل إفناء الوجود البشري. الدول - كذلك - مثل الكائنات البشرية مع فارق أنها أكثر براغماتية وعدوانية.
جميلٌ ومشرّفٌ أن يراجع إنسان رؤيته الآيديولوجية؛ لكن هل كان هذا الانسان سيقتنعُ بضرورة التضحية الراديكالية بالنفس لو كان قابعاً في خندق حرب شقّي يعجُّ بالجثث؟ الآيديولوجيا التي نختارها ونحنُ نستمتعُ بفطور الصباح وعصير الفواكه الطازجة لن تكون ذات الآيديولوجيا التي نختارها تحت وقع مطارق تدق رؤوسنا.
ليس من يقين آيديولوجي يمنحك بهجة الاكتشاف النهائي. حسبُك أن تعيش وتتعلم ولاتستبدلُ تخوماً آيديولوجية بتخوم أخرى بفعل وقائع تسمعُ عنها ولاتعيشها.