طالب عبد العزيز
بالمطر الذي كان البارحة إلتأمُ جرحٌ في الشجرة، الفلاحُ الاولُ أنبتَ منجلَه في الغضِّ المائيِّ هذا، فنزَّ دمٌ لم يجر بعيداً، هي المناجل تقْصبنا، تقودنا الى ما لم يعدْ قائماً، أو تراجع في أقبية الجسد، الذي تنوشه يدُ الذكرى. حتى مَ نبحثُ في يبيس الورق عن ثمرة نائمة، أخطأتها المخالبُ وحافاتُ الرفوش. هي أخذت الجريدةَ بأخطائها الى عتمة المعنى، ومضت قارئةً، ضوءٌ كثيرٌ همى،
وجرى نولُها على نسيج الروح، هاي هي تعصرُ الاحرفَ السودَ، تلتقطُ ما كان لها ذاتَ يوم، ونأى، وما لم يستقم حلماً عندي، لأنَّ الايّامَ في حافظةٍ أرفف لا ترى. أيّها الشاعرُ وأنت تُبعثُ حيّاًّ، كلّما صفّقَ حرفٌ بهاتفها، كن الضنين على أوراقها، وكن مُصحّفَها البليدَ، وصفحةَ كتابها الاخيرة، التي لا يَهتدي اليها أحدٌ، ولا تُستوفى عند مَدين.
فجرَ أمسِ، ضربتْ عربةٌ جدارَ بيتنا القديم، آجرٌّ كثيرٌ سقطَ، وتهاوتْ أعمدةٌ في السقف، كانت ترفع السماءَ، وانكسر شمعدانٌ كان يحنو على الثياب، لم أجرِ خلف الحوذي، هو لم يتوقف أيضاً، لهذا تأخرتِ الشمسُ، فلم أرَ أكثر من ثلاثين آجرةً، سقطنَّ تباعاً. أقولُ لكِ: لهذا لم أشأ أن أكون شاعراً، فأنا منذ خمسين مضت، ما زلتُ أغرسُ الضوءَ بأزقة الخارجين في الفجر، الخائفينَ من تتابعِ سقوط الآجرِّ خلف عرباتهم. لكنْ، يحزنني، أنَّ يدي ظلت تومئ خلفك، وأنت ترفعين مساقط تنورتك عن الاسفلت، وأنت تتخطينَ البيوت، وهي تقفر وراءك، ترفعك الجدرانُ وهي تنحطُّ ميتةً، بما أتاها من الآس والجلنار، والكتبَ وهي تصعدُ الارففَ، وتتراكمُ حكاياتٍ، ونساءً تركّنَ أكفّهنَّ معلقاتٍ في الاضرحة، نساءَ الفضة والياقوت والجَزَعِ والانتظار، اللواتي نسينَ حقائبهنَّ في الفنادق الرخيصة، أو مضيّنَ الى جدولٍ مندثرٍ، لم يبق من طلاسمه إلا القليل.
ينصِّفُ الماءُ ذراعَكَ في المساءِ، الذي مازال خلف أرومة التوت، أجوسُ ترابه كلَّ يوم، وأحصي عدد المارين الغافلين به، و من شباكها الطيني، حيث اندفعَ صدرُك بجبروت العشرينَ وعامين، أصغي لماكنة السقيِّ تلهجُ باسمائِك الى اليوم، فتشيرين الى طائرٍ أخضرَ في السماء، هو ما يُحبِّر به رسّامُ الامل في القرى البعيدات، لذا تعالي، سأحدثك عن الليل الذي لا يمضي بسريرٍ واحد، عن الوسادة يخايلها شعرٌ قصيرٌ، لرجل غائب. تعالي نوجزُ ما أستعصى على المعاجم، أنت تقولين لا. وانا اقول متى. لكنْ، هو الماءُ ذاته، الذي كان يأمرنا فنذهب، ويدعونا فنجيب، ويعجزنا فنهجر، ونمتدحه فيدخل جسدينا ضوؤه، أردتُ أن نمضي مع الشِّباك الى الموج البعيد، الى العلاماتِ التي لن تضلَّ أحداً، لكنك اخترتَ ساحل الملح، شاطئ الأضرحة الخرب.. الآن تلوحُ لي من القمراتِ البعيدة أكفٌّ ما عدتُ أتبينها بين المرج والريح وما تمزَّق من الاشرعة.
على ذات الترابِ جلستُ، وبالعُرفِ المتغضِّن من الآسِ أومأتُ، فلم يسقط طائرُ الغياب، من شجيرة الامل، لم اسمع همهمة الآجرِّ، في الفجر أسقطه الحوذيُّ ومضى.. لا أنت في هاجرة التذكر، ولا انا في قيعة النسيان والرماد، كلانا في زمجرة المعنى. ومثل صدفة يائسةٍ ظلَّ قميصُك في خزائن النهار، لا حبال الغسيل تنوشه فتخضرُّ الرِّيحُ، ولا الصباح يتعقّبه فأصيحُ به ياهذا، يا راية الصبر. ومثل ثور أخطأته السكاكين أخذتُ طريقَ الليل الى الليل، أعبُّ خمرته، وأحدو بنشيد ليس لي، وأتقصاك بجفن تغشاهُ المطرُ والهذيان. كلُّ المنازل أنت، وهذه الازقّةُ صنعتُك في الغياب، التواري يليقُ بك، فتطوى بك الحجرات، وتختزنك الارائك، وتغفو على ذراعك أساورُ ما عدتُ أحصيها. انا خاتمةُ كلِّ كأس، وأنت مبتدأ كلِّ عطر.
وفي ما يرى المخمورُ أبصرتُ عشبَ الحديقة وهو يخضرُّ، أو وهو يجفُّ، لا أدري. كانت السنوات تمضي خلف حوذيٍّ أعمى. صحتّ بالمراكب، تتركني، بي ما بصواريك من شجن وغروب، لا الماء يسمعُ، ولا الرمل ينسى، ولا الحجر يواري الحجر. وحدي، أصححُ أمساً لا غد له، ومن خرائدٍ صفرٍ صارت تبلى أستلُّ الايّامَ، أسألُ الزيتَ إفاقةً لماكنة السقيِّ، أتصفحُ قراطيسَ محت الدهورُ أحرفها، أمتدحُ الاسبابَ، ولا أقدحُ بسيرةِ المصابيح.