ستار كاووش
في الوقت الذي وطأت فيه قدمي مدخل إحدى قاعات المتحف الكلاسيكي بمدينة دريسدن، وجدتُها تقف أمامي وجهاً لوجه! بدا لي الأمر كإنه حلماً، لكن هاهي تقف قبالتي بكامل حقيقتها، وتعيدني الى سنوات بعيدة جداً من حياتي.
إنها لوحة ريمبرات (خطف جانيميد) والتي سأحكي لكم هنا حكايتي معها، بعد أن سَكَنَتْ في زاوية بعيدة من ذاكرتي، ولم أعرف بوجودها في هذا المتحف، ولم أتوقع ذلك أبداً. فقد أعادتني هذه اللوحة الى صباي، حين اشتريتُ أول كتاب فني في حياتي، وكان عن الرسام العظيم ريمبرانت، وقد أعدتُ رسم الكثير من اللوحات الموجودة في ذلك الكتاب لتطوير مهارتي في الرسم، وهذه اللوحة التي أقف قبالتها الآن كانت من ضمن اللوحات التي رسمتها من ذلك الكتاب البعيد، حيث يظهر في اللوحة نسر كبير يقوم بإختطاف صبي صغير ويحلق به عالياً، وقتها جذبتني الدراما الموجودة في اللوحة وليس تقنيتها التي كانت بعيدة المنال عن فهمي كفنان في بداية الطريق، لذلك رسمتها لتعَلَّقَها أمي في البيت، والتي كانت تتسلى بحديثها لضيوفنا عن قصة خيالية حول الصبي المسكين الذي سرقه النسر من أهله. لم أصدق بأني سأقف ذات يوم أمام اللوحة الأصلية التي أعرف صورتها فقط، ولم أتوقع أن أكون بحضرتها لأتأمل تفاصيلها وتقنيتها وألوانها كما رسمها ريمبرانت بالضبط، لكن هذا هو سحر الفن وهذه مفاجئاته العظيمة. جلستُ على الأريكة التي تتوسط القاعة وإستعدتُ صباي وتلك الأيام التي كانت فيها رؤية كتاب فني تشبه المعجزة، وها أنا الآن محاط بكل هذه الكنوز، ومنها هذه اللوحة التي أعرفها منذ زمن بعيد جداً. تأملتها وإستعدتُ في ذاكرتي القماش الأبيض لكيس السُكَّر الذي غسلته أمي، ثم قمتُ بطلائه بلون أساسي أبيض، ليكون مهيئاً لرسم هذه اللوحة التي أستعدتُ معها جانباً من حياتي كان نائماً في الذاكرة، حيث كان ريمبرانت أول رسام حقيقي أتعرف على أعماله في مرحلة الدراسة المتوسطة، والذي مازال يعلمني ويحمل الفانوس أمامي ليضيء لي الطريق كما يفعل الآن في هذا المتحف.
وفي تلك الأيام البعيدة التي كنتُ أُهيء فيها نفسي للدخول الى عالم الرسم، ثم الإستعداد للدراسة في أكاديمية الفنون، أتذكر كيف كنتُ متعاطفاً مع هذا الصبي الذي أعدتُ رسمته عن ريمبرانت. ورغم أني لم أعرف وقتها معنى الحكاية الكامنة خلف اللوحة، لكن فضولي كان يدفعني دائماً لمعرفة المزيد مما تفصح عنه قماشات الرسم، حيث فهمتُ فيما بعد إن موضوع هذه اللوحة يعود للأساطير اليونانية، ويتعلق بالصبي جانيميد الذي كان أبناً لأحد الرعاة، وقد أرسل زيوس نسراً ليخطفه من أحد التلال القريبة من طروادة، ويحمله الى جبل أوليمبوس. رسم ريمبرانت هذه اللوحة سنة ١٦٣٥ ولا أعرف إن كان مؤمناً بهذه الأسطورة أم لا، لكنه إنجذب بكل تأكيد نحو الموضوع الغريب الذي يمكن أن يتحول بين يديه الى كنز فني مذهل.
نرى في اللوحة كيف ان نسر زيوس يهيمن على فضاء اللوحة بأجنحته الكبيرة، ممسكاً بمنقاره ملابس الصبي ومثبتاً مخالبه على ذراعه الأيسر، فيما يَدُ الصبي اليمنى مازالت ممسكة ببعض حبات الكرز، وقد تملك الرعب والخوف وجه الصبي بشعره الأشقر المجعد، وهو يستدير نحونا وكإنه يستنجد بنا لإنقاذه من مخالب النسر. ومع الخلفية الكئيبة المعتمة واللحظة الدرامية للحدث، لم ينسَ ريمبرانت قوة التكوين وتأثيره على عين المشاهد، حيث جعل وشاح الصبي الأحمر يرفرف في الظلمة ويتوازن بشكل مذهل مع الساق اليمنى في الأسفل واليد اليسرى وجناحَي النسر، ونتيجة كل ذلك بانت الهوة السحيقة التي تفصل الصبي عن عالمه الأرضي البعيد.
تقول الأسطورة إن زيوس قد منحَ الشباب الأزلي والخلود للصبي جانيميد، وجعله الحامل الرسمي لكأس الآلهة. وهناك بعض التفسيرات التي تشير الى العلاقة المثلية بين زيوس وجانيميد. وفي الالياذة ذُكِرَ بأن زيوس قد عَوَّضَ والد جانيميد بهدية من الخيول الجميلة، وقد إستجاب والده لذلك وراقَ له أن يصبح إبنه خالداً. وبغض النظر ان كانت هذه اللوحة تعود للأسطورة اليونانية أم لا، فأنا أعتبرها أسطورتي الشخصية التي إصطحبتني معها وأنا يافع، وأدخلتني عالم الرسم.