اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > لغة عالمية واحدة: مسعى ممكن أم يوتوبيا مستحيلة؟

لغة عالمية واحدة: مسعى ممكن أم يوتوبيا مستحيلة؟

نشر في: 13 ديسمبر, 2022: 11:13 م

لطفية الدليمي

ظلّ العالمُ الذي نعيشُ فيه – وأحسبه سيظلُّ – ميدان تعدّدية لغوية هي أقربُ إلى (برج بابل) تصطرعُ فيه الألسن (بمعنى اللغات) أحياناً وقد تتفاعل تفاعلاً حيوياً في أحايين أخرى ؛

لكن ليس بين تلك اللغات من يودُّ الناطقون بها رؤية الساحة العالمية ميداناً لسيادة لغة واحدة بعينها إلا إذا كانت هي اللغة المخصوصة بالهيمنة العالمية.

لاكينونة بشرية من غير لغة. (أنا أتكلّم إذن أنا موجود): هكذا يمكن تحوير المقايسة الديكارتية لتصف الكائن البشري وصفاً دقيقاً من حيثُ كونه كائناً لغوياً. يجري الحديث في أحيان كثيرة عن لغة عالمية، وفي الغالب تكون اللغة الإنكليزية هي الفائزة في سباق اللغات لأسباب كثيرة. مانشهدهُ اليوم هو قفز اللغة الإنكليزية من مرتبة اللغة المرشّحة لتكون لغة عالمية إلى لغة عالمية بالفعل في ميادين العلم والتقنية والاقتصاد ؛ لكن لايجبُ أن نتغافل حقيقة أنّ عالمية اللغة – أية لغة – لاتعني وحدانيتها في العالم. العربية والالمانية والفرنسية والصينية هي لغات عالمية أيضاً بحساب عدد الناطقين بها، وربما المعيار الإجرائي للإحتكام إليه في كون لغة ما عالمية هو إعتماد تلك اللغة بصورة رسمية في نقاشات الأمم المتحدة.

نشهدُ اليوم شيوع حوالي 6000 لغة في العالم، وهي في تناقص مضطرد. هل ثمّة داروينية لغوية تقضي بموت اللغات التي يخفت تأثيرها ويقلّ عدد الناطقين بها في حين يتعاظم تأثير لغات أخرى؟ والسؤال الأهم: هل ستفضي هذه الداروينية اللغوية إلى سيادة لغة عالمية واحدة في المستقبل؟ وربما الأهم من كل هذا: هل سيحصلُ هذا الأمر على نحو طبيعي حتى لو إتخذ مساراً زمنياً طويلاً أم في المستطاع حثّه بفعاليات مقصودة تسعى لها جهة مؤسساتية ما بغرض فرض سيادة لغوية عالمية؟

قد يجد المنافحون عن رؤية (اللغة العالمية الواحدة) تسويغاً لرؤيتهم في كتابات تشومسكي الذي يرى أنّ هناك قواعد عالمية وخصائص تشترك بها جميع اللغات، وأنّ هذه القواعد والخصائص موجودة في دماغنا مسبقاً ؛ الأمر الذي يفسّرُ سرعة تعلّم الطفل للغة.

واحدةٌ من تلك التجارب الفكرية التي لطالما داعبت خيالي – وأظنّ خيال كثيرين سواي – هي التالية: كيف سيكون شكل العالم لو تحدّث ساكنوه لغة واحدة (أو موحّدة) في شتى أصقاعه؟ اللغة الموحّدة هنا كناية عن محاولات حثيثة بذلها بحّاثة رائدون لتخليق لغة إصطناعية – أي ليست طبيعية – عالمية مثل لغة (الأسبرانتو) التي لم يكتب لها النجاح. اللغة منتجٌ طبيعي يتمّ تمريره للوافد الجديد إلى العالم بفعل مشترك من الوراثة والتدريب ؛ لكن هل اللغة شيء يُكتشفُ أم يخترعُ (حالها في هذا كالرياضيات مثلاً)؟ هذا ميدان مباحث كبرى مشتبكة، وليست ميدان موضوعنا هذا.

تخبرُنا الوفائع التاريخية أنّ الفيلسوف الفرنسي ديكارت هو أولُ من نادى بتبنّي فكرة لغة عالمية ؛ لكنه لم يسعَ لوضع فكرته موضع أي تنفيذ حقيقي. أعقب ديكارت لاهوتي ألماني كاثوليكي يدعى شلاير، نادى بفكرة تعميم لغة عالمية عام 1879، ونجح بالفعل في تخليق لغة عالمية طبيعية بعد بحث ودراسة في اللغات السائدة. تخبرُنا الوقائع التاريخية أيضاً أنّ طبيب العيون البولندي لودفيغ زامينهوف سعى لتخليق لغة مُحايدة، لا للقضاءِ على الحروبِ والاختلافاتِ بين البشر فحسب ؛ إذ كثيرًا ما شهدنا حروباً بين أناسٍ يتشاركون ذات الأرضِ وتجمعهم اللغة ذاتها. إنّ المسعى النبيل الذي أراده زامينهوف هو أن تتحقق عولمة المعرفة العلمية ؛ فلا يتحتّم عليكَ تعلم الصينية لتستطيع التوصّل إلى آخر ما بلغته علوم الصينيين. أراد زامينهوف – باختصار - ألا يُصبحَ العلم سلعةً وألا تحتكرَه دولةٌ بعينِها. تحوّلت يوتوبيا اللغة العالمية الواحدة التي إستوطنت عقل زامينهوف إلى حقيقة مجسّدة على الارض ؛ فبعد أبحاثٍ دامت أكثر من عشر سنين - إستطاعَ زامينهوف خلالها أن يُتقِـنَ إثنتي عشرة لغة – تمكّن من إبتداع لغة جديدة أسماها إسبيرانتو (ومعناها الرجل الذي يحلم). لم تزل لغة الإسبيرانتو هي أفضل لغة عالمية إبتدعها البشر. يمكنُ للقارئ الشغوف مراجعة كتاب المؤلفة إستر شور Esther Schor، المنشور عام 2016، والذي عنوانه جسرُ الكلمات: الإسبيرانتو وحلمُ لغة عالمية Bridge of Words: Esperanto and the Dream of a Universal Language

لنفترض، في تجربة فكرية منعشة للعقل، أنّ لغة ما (طبيعية أو إصطناعية مثل الإسبيرانتو) جرى تخليقها ورفعها لمرتبة اللغة العالمية الموحّدة، فهل سيكون النجاح حليف هذا المسعى. أظنّ أنّ الكسالى الذين لطالما أعسرتهم اللغة سيتراقصون طرباً بعد أن يطرحوا عنهم عبء التعلّم ومشاقه. دعونا من هؤلاء الكسالى. حتى المجتهدون أنقياء السريرة سيظنّون في اللغة العالمية الموحّدة وسيلة لتعزيز التفاهم العالمي وكبح جموح الصراعات العنفية الناجمة عن سوء فهم الآخر، وسيقتربُ العالم من صورة يوتوبية تبعث على الأمل والثقة.

لايبدو النجاح إحتمالاً متوقعاً لأسباب كثيرة، منها:

- اللغة والهوية: لايمكن للبلدان أن تتغافل ببساطة عن حقيقة أنّ لغاتها واجهات مميزة لكبريائها الوطني وجغرافيتها السياسية الدالة على تأثيرها المتفرّد في العالم. يطمح الناس في كلّ العالم إلى إمتلاك هويات متفرّدة وإنشاء مجموعات بشرية بخصائص مختلفة عن الجماعات البشرية الأخرى. الجماعات البشرية في هذا السعي لاتختلف عن الأفراد ؛ فكلّ منّا يسعى لخلق كينونته الذاتية وفردانيته الشخصية ولايتمنى أن يكون نسخة من سواه.

- اللغة عنصر حيوي في منظومة السياسات الناعمة: لو أردنا مثالاً شاخصاً لمعرفة مدى إرتباط اللغة بالهوية الوطنية (أو القومية، لافرق) فيمكن التدقيق في حجم الإهتمام الفائق الذي توليه كلّ دولة لتعلّم لغتها خارج حدودها في إطار معاهدها الثقافية (المعاهد الثقافية البريطانية، معاهد غوته الألمانية، المعاهد الثقافية الفرنسية،،، إلخ). لادولة ستقبلُ بالتضحية بإرثها اللغوي لصالح لغة عالمية موحّدة. تلك أخدوعة ساذجة.

- ضرورة محاربة الكسل البشري الطبيعي: نميلُ – باعتبارنا كائنات بشرية – إلى قانون فيزيائي حاكم يسمّى قانون الفعل الأقلّ The Law of Least Action، وجوهره أداء الفعل بأقلّ جهد متاح ؛ لكنْ من جانب آخر يجبُ أن نعرف حقيقة أخرى: الخبرات الحقيقية والمنافع العملية الطيبة التي تقود للتطوّر البشري لاتنقاد لهذا القانون. لن يتطوّر الدماغ البشري والخبرات البشرية في أناسٍ إعتادوا التعامل اليومي السهل وأدواته المتاحة من غير جهد مبذول بطريقة قصدية وهادفة. لايستطيع الواحد منّا تنمية عضلاته وهو مستلقٍ طول اليوم خدِراً متبلّداً في سريره، وكذا الأمر مع عقولنا. لابدّ من فعاليات قسرية نمارسها تخالفُ الفعاليات التي صرنا نؤديها وكأننا مسرنمون (سائرون نياماً). الفعاليات التلقائية لاتطوّرُ العقل البشري، وتعلّمُ لغةٍ جديدةٍ واحدةٌ من أعظم الفعاليات التي تطوّرّ عقولنا.

- اللغة أكبر من وظيفتها التواصلية: حقيقة أخرى لايجب نسيانها أو التغافل عنها. اللغة لم تكن أبدًا أداة تواصل بين البشر فحسب ؛ لكنْ فضلاً عن وظيفتها التواصلية فإنّ اللغة تجعل كلاً منا يُدرك الأشياء ذاتها ولكن بطريقته الخاصة الممهورة ببصمته الشخصية. اللغة هيكل إطاري يشكّل قاعدة لرؤيتنا المميزة للعالم: العربي مثلاً يرى العالم بطريقة تتمايز عن رؤية الانكليزي أو الفرنسي أو الألماني أو الياباني أو الصيني،،،. اللغة بهذا المفهوم حاملٌ لهذه الرؤية، وكلّ لغة جديدة نتعلّمها هي إعادة تشكيل رؤيتنا للعالم. هل ثمة من يريدُ خسران هذا التنوّع الخلّاق في رؤية العالم؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

للحفاظ على «الهدنة».. تسريبات بإعلان وشيك عن موعد انسحاب القوات الأمريكية

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

قناديل: أما كفاكُمْ تقطيعاً بأوصال الوردي؟

التجنيس الأدبي والاكتفاء الذاتي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

رمل على الطريق

موسيقى الاحد: جولة موسيقية في فيينا

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

مقالات ذات صلة

التجنيس الأدبي والاكتفاء الذاتي
عام

التجنيس الأدبي والاكتفاء الذاتي

د. نادية هناويإن القول بثبات الحدود الأجناسية ووضوح مقاييسها هو قانون أدبي عام، نصّ عليه أرسطو وهو يصنف الأجناس ويميزها على وفق ما لها من ثوابت نوعية هي عبارة عن قوالب لفظية تختلف عن...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram