حيدر المحسن
عرض منتدى المسرح في الشهر الفائت عملا من تأليف وإخراج الدكتور جواد الأسدي. عنوان المسرحيّة هو اسم الزّوجة «أمل»،
وأبهرت الجميع في أدائه الشّابّة الجميلة رضاب أحمد، مع الممثل القدير حيدر جمعة، وطوال ساعة تمكّن هذان الشّابّان من مسك كلّ زاوية وأرض في المسرح، واستطاعا ملْءَ أفئدة الجمهور الحاضر بالحبّ والغضب، وكانا يتبادلان الاتّهام لأن كلّ شيء لدى العائلة المكوّنة منهما يدلّ على غياب الأمل، كما أن قسوة الظروف التي يمرّ بها البلد أتمّت في ما يبدو نشر الجفاف في روح الزوجة، وقطّعت خيوط حنانها الأمومي إلى الجنين في رحمها، فهي تحاول التخلّص منه بأيّ وسيلة، الأمر الذي جعل الزّوج غاضبا إلى درجة أن غلب عليه التّصرّف الهستيري طوال الوقت.
إن لأجسادنا كلاما يشكّل حوالي ثمانين بالمئة من التعابير التي تدور بيننا، ويقوم المسرح التّجريبي على لغة الجسد أكثر مما يعتمد على الحوار، فكلّ إيماءة من يد الممثّل أو إشارة أو خطفة من إحدى قدميه وخُزرَة من عينيه هي رسالة معرفية من مُخرج العمل إلى العالم، وكذلك كلّ نأمة صوت، بما فيها الوجس والهمزة في أول الهمس ونفث الهواء، حتى الحركات الخفيّة تبلغ المشاهد المستريح في مقعده. إنه الفرق بين ما يُدعى بالمسرح الجادّ والآخر التجاري أو الشّعبي، فبدلا من إضحاك النّاس أو تقديم مادّة دسمة للّهو، يقدّم لك الفنّان درسا في فنّ الإيماء والصّوت والصّمت والصّدى. بغياب أيّ مؤثّر صوتيّ، تمكن فريق العمل في المسرحيّة من إيصال صوت دخان السّيجارة وقطر الماء وتقليب أوراق الكتاب، وبعض الصّوت مصدره الإيهام، وهكذا يتمّ التّعبير عن الصّمت حين ينجرح بحدّة، وحين ينزف وحين يموت، وكذلك الكلام. تسير الزّوجة "أمل" إلى مقعدها ثم تجلس، ويخال المشاهد أنه يسمع صوت احتكاك بدنها مع موضع الجلوس، وهنا تَبِين براعة المخرج وهو يبتكر لغة لها نبرة جديدة للأشياء والحياة من حولنا. إنّ اكتشاف الأدب يؤدّي إلى اكتشاف الحياة، كما أنّ فهم الواقع يتطلّب منّا إدمانه، ومن ثَمَّ نسيانه تماما والطّلب من آلهة الفنّ خلق واقع بديل، وشاء مخرج العمل، وهو مؤلّفه كذلك، أن تكون خطوته واسعة، فجمع التّأليف المسرحيّ بلغتيْ الشّعر والنّثر. لكن إجادة القصيدة المسرحية أمرٌ يهابه أكثر النّاس تمرّسا في بحور الشّعر وأسراره، وهكذا غلبَ طابع التّمحّل على الشّعر (أو النّثر) الذي تقوله الزّوجة والزّوج. كما أن طبيعة الفنّ القصصي الذي حاوله الأسدي كان من النّوع الذي طغى عليه القرب الشّديد من الواقع، كأنّه قطعة منه. إن الواقعيّة الزّائدة تقتل الواقع، وتغيب عن المتلقّي عندها الصّورُ التي يظهر فيها الوجود مخلوقا بواسطة آلة الفنّ. إن الشّفرة السّرّيّة في الوجود هي مطمح الفنّان، ولا يمكن بأيّة حال تقديمه كما لو كان مصوّرا بعدسة الكاميرا أو مرآة المجهر. بواسطة التّجريب في المسرح بلغتْنا لغة اليأس الذي نعيشه، وتعلّمنا منه إحدى طرق شحذ الحواسّ التي هي المطلب الرئيس للمشاهد المتلقّي، وهكذا صار بإمكاننا شمّ رائحة الماء والكتب الممزّقة، وكان الزّوج يقوم ببعثرتها على الأرض في ساعة جنونه، دلالة على اليأس من أن يقدّم له الإبداع العلمي والأدبي أيّ عون لتلافي محنته. كانت المكتبة الكبيرة تشكّل فضاء المسرح الخلفيّ، واختار لها المخرج وضعا تظهر فيه مائلة بزاوية أزيد قليلا من برج «بيتزا»، فهي تُلقي بمحتوياتها باستمرار على الأرض، ويمتدّ مشهد المكتبة على المنظر العامّ للمسرح، وتظهر للحاضرين مثل سفينة تستعدّ للغرق. من بين أثاث البيت يُلفت انتباه المشاهد شيئان هما الماء والكتب، الماء يجري مسموعا من حنفيّة طوال الوقت ويكوّن بركة على الأرض، والكتاب يغطّي كلّ مكان في المنزل، ووسط هذه الفوضى كانت العائلة تعيش جحيمها الخاصّ والذاتي. هل كان القصد إثبات الفشل الحياتي والثقافي الذي يعيشه العراقيون الآن، وأن الحياة والفن يتعرضّان يوميا للإدانة؟