طالب عبد العزيز
الى حيدر المحسن
تتركُ البيت باكراً، يأخذك أحدُ أولادك بسيارته، هو لم يتعرف على المدينة، كما يجبُ بعد، والظلام يلفُّ أطرافها بأنهارها الالف من الجسر الى الجسر. وفي المعقِل، المسمّى باسم المعقل بن يسار، ليس بعيداً عن الميناء الام، وسكة الحديد، والمبنى القديم لدائرة الميناء..
هناك، في الضواحي التي كانت مثابة الزعيم عبد الكريم قاسم، وضابطه المحبوب مزهر الشاوي، يضيعُ عليك بيت كاظم الحجاج الشاعر، الذي ستكون معه في الطائرة، بعد ساعتين، لكنك تهتدي اليه مصادفةً. هل كانت المصادفة إلّا إحراج الضياع.
من الطائرة ستبدو الشمسُ باردة، غيمٌ ثقيلٌ تعالى على شبابيكها، ثم لمست الريحُ الاجنحة الخضرَ، فحلقت. مازالت الارضُ بالملح الذي طغى منذ نصف عام، وأنت متشوفٌ ومتشوّقٌ لبغداد الكبرى، لمقاهيها وحاناتها ونؤاساتها الكثيرة، وهي تلتئم على غضبها حيناً، أو وهي تلهجُ بالأفئدة المولّهة بها، أو بتمددها السكانيِّ وهي تلتهم البساتين والنخل من حولها، لتصبح أوسعَ عاصمة في الشرق. كيف وقد دخلها الجنوبُ المحتطبُ في أهله، والمصطرع مع ذاته، المتخلي عن فطرته وجماله الذي كان... مزارعو القمح، وغارسو الرز، ومربّو الثور السماوي، مطعمو البلاد بأجمل فطور صباحي فرّوا من هناك، ودخلوا المدينة من قناتها، تركوا بساتينهم تعرى وتظمأ، طامعين بما تبقى من البغددة، والتجوال في الشوارع غير الآمنة دائماً.
في الضاحية الجميلة، باذخة الأناقة، مدينة الضباط الكبار، والطيّارين الابطال يحملُ عاملُ فندق اليرموك حقيبتك، ويسكنك الغرفة 223 فتأنسُ بالمكان، تتصل بأصحابك البغداديين، شعراء وفنانين ومترجمين وسواهم، فيقترحون الامكنة والازمنة عليك. كلُّ زاوية في بغداد مرضيةٌ، وكلُّ مقهى مجلسٌ للحديث عن الشعر، وكلُّ شقّة صالحةٌ للفوز بامرأة، وكلُّ طاولة مفازةٌ للتمتعَ بالنبيذ وارتياد الابدية. امّا معرض الكتاب والوقوف على منصة الشعر فيه فهو حديث مؤجلٌ لديك، فجمهورهُ لم يعد، ليتك تعيره لغيرك من الشعراء، هناك من يليق به صاخباً. أحتفاءُ الأكفِّ لا يليق بك شاعراً، أمّا الكراسي فمملوءة كذباً، ذلك لأنَّ الشعرَ همهمةُ عارفين، ويقينٌ ثقافيٌّ آخر.
لم يفلح النبيذُ الارمنيُّ، الذي تبضعته البارحة- خلاصة الكرز، وسلافة المقهورين- باستحصال تأشيرة عبورك اليها، فقد ظلَّ خيالها غامضاً خلف ستارة بفندق على دجلة، وتأبَّد هناك، مرّت السنوات عليه، ولم ينتشلني ضوءٌ منه، لم تطو القراطيس معنى من معانيه الكثيرة، فأنا، الآن، أقبّلُ وجنتين تطلّان من شاشةٍ، بالابيض والاسود، بعيدةٍ أطمرُ وجهي بالشعر الجثل الذي ما عاد لي، أفتح أزرارَ قميصٍ تناثرتْ بأصابع مقامرٍ آخر.. هل ينبغي عليَّ أن أستردَّ من الظلام كلَّ يدٍ تناوشتها، وأهتدت الى حيث اهتديتُ ذات يوم، أنا مفجوعٌ الذكرى، والنبيذ الارمني بات خارج الوقت. تلسعني حرارةُ الموت بتبّانِك، ويأخذُني الفضاءُ الى حمّالة صدرك فأتنفسُ النارَ، أنتِ صلصالُ كلِّ ممسوس بقلبه، هناك من يمسكُ بي، لا لأرى ما رأى، إنما ليعجن خيباتِه الأخيرة. أتحدثُ عن مادة جسدك في الخذلان، عن مذهبِ كلّ عاجزٍ في الوصول الى الغايات.
أنا مبنى كلِّ مؤسسةٍ للتراث، حيثُ أسكنُ الآن، أتهدم ولا أتهدم، فحيطان روحي رطبة برائحة الغابرين، حافظة أيامهم ولياليهم أنا، تدحرجُني قطاراتٌ لا أقف في محطات انتظارها. في كل زيارة لبغداد يمنحني صديقي الكاتب والشاعرُ الطبيبُ حيدر المحسن من انفاس علمِه جرعةً جديدة، ينتزع لي من نخل محبته سعفةً أخرى أحتمي بها من هاجرة الخوف والظنون، فأنا مريضه الذي يتوسله أملا أكبر، يطلب المزيد من الطرق لقدمه التي لا تقنع بالاسفلت منتهىً، وبالازقة خلاصةً للوصول. أسأله هدهدةً أخرى، لا تفزعُ الطفلَ الخصيبيَّ، القادمَ من البحر، قبل سبعين عاماً، ذاك الذي يريد من النَّهار أن يكون نهاراً لا أكثر، ومن الليل أسرةً وعاشقين. وألَّا تهدمَ السنواتُ ما شيّدَ وأقام.