ثائر صالح

كتب العالم الموسيقي الباحث في الموسيقى الرافدية البروفيسور ريتشارد دمبريل قبل نحو عقد من السنين سبع أغاني يحاكي فيها الموسيقى الرافدية القديمة استناداً إلى دراسته نظرية الموسيقى السومرية - البابلية

التي شرحتها الرقم الطينية منذ ظهور المدن السومرية حتى القرون التي سبقت الميلاد.

وغنت هذه الأغاني السوبرانو الأرمنية السورية سيفان حبيب قبل سنوات (يمكن سماع التسجيل على اليوتيوب). أختار دمبريل سبعة نصوص مختلفة بينها مدائح عشتار (إيلتام زمرا شُبتي إيلاتم - غني لأجمل الآلهة) وتنويمة بابلية وأنشودة امتدح رب الحكمة (لودلول بيل نَمَقي) وختمها بأغنية الحانة السومرية.

درس البروفيسور دمبريل نصوص الرقم الطينية السومرية والبابلية والآشورية الموجودة في المتحف البريطاني، وقسم منها نصوص تعليمية لتأهيل الموسيقيين والعازفين، وتوصل إلى إعادة تشكيل المقامات الموسيقية الرافدية القديمة بنغماتها الموسيقية. ويذكر دمبريل إن بناء هذه المقامات يشبه إلى حد بعيد تركيب سلالم المقامات العربية التي يعتبرها امتداداً للموسيقى الرافدية القديمة. وقام بتأليف الأغاني باستعمال النصوص الشعرية القديمة وهذه السلالم الموسيقية بالاستفادة من النصوص التعليمية للموسيقيين في الرقم الطينية ومن خبرته في الموسيقى العربية التي درسها في المغرب وسوريا والعراق بشكل عميق. يرأس البروفيسور دمبريل المجلس العالمي لعلم الموسيقى الآثاري في الشرق الأدنى بالتعاون مع أمين المتحف البريطاني إرفينغ فنكلر الشهير بنشاطه للتعريف باللغات والحضارة الرافدية.

ونشر دمبريل في 30 تشرين الثاني الماضي على اليوتيوب عملاً موسيقياً كتبه استناداً إلى اللحن الذي وضعه لأنشودة "أمتدح رب الحكمة" وزّعه لرباعي وتري، ثم ختمه بما أسماه "حيرة الإله مردوخ". يستغرق العمل ثمان دقائق تقريباً، استعمل فيه برامج كمبيوترية لأداء أصوات الرباعي الوتري. الجزء الأول، أي الأنشودة، هو عمل يمكن تصنيفه ضمن أسلوب موسيقى "المينيمالزم" التي تتميز بالتكرار والبناء على أساس جمل موسيقية قصيرة تتطور بشكل بطيء عبر التكرار والتغيير الداخلي والهارموني. وهذا يتوافق تماماً مع طبيعة الشعر الرافديني الذي يتميز بهذا النمط من التطور التدريجي البطيء والتكرار. أما الجزء الثاني عن حيرة مردوخ فهو يذكّر بالموسيقى الطليعية التي ظهرت بعد الحرب العالمية الأولى، نلمس فيها الابتعاد عن استعمال المراكز النغمية.

ربما كُتب هذا النص الطويل نسبيا (480 سطر) في أواخر القرن الرابع عشر أو في القرن الثالث عشر قبل الميلاد باللغة الأكدية أو ما يسمى البابلية الوسطى، وقد وصلنا مكتوباً على أربعة ألواح. النص بتحدث بلسان شُبشي مشرا شكّان وهو رجل رفيع المرتبة نجد اسمه في بضعة نصوص من تلك الفترة. استمر نسخ هذه الانشودة الشهيرة من أدب الحكمة لقرون تالية دون تغيير، وعثر على نسخ عديدة منها. يشبهها المتخصصون بكتاب أيوب بسبب تشابه المحتوى عن الصبر أمام المصائب التي تنزل بالرجل الورع الذي لا يتوقف عن الإيمان بربه رغم كل شيء، مثلما اقتبس غيره من الكتب اليهودية الكثير من أدب ونصوص وقصص وادي الرافدين.