لطفية الدليمي
(الانسان حيوانٌ إجتماعي): هذا ماصرّح به طيب الذكر أرسطو. أفكّرُ كثيراً في حدود هذه العبارة ومدياتها. دعونا من الخصيصة الحيوانية، ولندققْ في الخصيصة الاجتماعية. ماذا تعني؟ تعني أنّ الانسان لايستطيبُ العيش إلا مع جماعة من نظرائه. قد يكون هؤلاء النظراء مختلفين معه في صفاته الذهنية والنفسية، وقد يكون لهم شيء من اتفاق معه. المهمّ أن يكونوا كائنات بشرية تحققُ قدرة التواصل اللغوي ؛ إذ مامعنى أن نعيش مع أناسٍ لانتبادل الحديث معهم؟
لكن لنتفكّرْ في الواقعة التالية التي ربما خبرها كثيرون منا: يحصلُ أحياناً أن نعزل أنفسنا عن نظرائنا البشريين (أفراد العائلة مثلاً) لسبب أو آخر، ولن يضيرنا أن لانتحدّث معهم ساعات طويلة وربما أياماً. الكّتّاب - مثلاً - تكون هذه الحالة هي القاعدة لديهم وماسواها إستثناء. يكفي أن يشعر المرء بأنفاس سواه أو بوجوده حتى يأنس لعزلته، وليس بالضرورة أن يتواصل لغوياً مع الآخرين. ليست هذه حالة شاذة. قد ننصرفُ لبعض شؤوننا وقتاً طويلاً من غير أن نتواصل مع سوانا، ولن نشعر بضير أو سوء ؛ لكن لو قيل لنا أن جميع مَنْ في المنزل غادروا ولم يتبقّ سوانا عندئذ يتملكنا ضيق. ماالذي تغيّر؟ لاشيء. العزلة اللغوية ممكنة إذن ؛ لكنّ العزلة الوجودية ليست مرغوبة، ويبدو أنّ ميكانيزمات التطوّر خلقت فينا هذه الخصيصة كوسيلة دفاعية تؤكد حاجتنا (البراغماتية) إلى كائنات بشرية أخرى لأسباب أبعد من محض تبادل أحاديث عابرة معهم.
نتحدثُ اليوم عن بصمة كاربونية لكلّ فرد منّا، وهي مؤشر عن مدى مايطرحه الواحد منّا في الجو من غازات مؤذية للبيئة. أظنُّ أنّ من المناسب أيضاً الحديث عن بصمة ضوضائية للفرد: كم تعملُ من ضوضاء في محيطك؟
لعلّنا نتذكّرُ الفلم السينمائي الجميل Windtalkers الذي إستطاع فيه علماء أمريكيون تطوير شفرة للتراسل مستعينين ببضعة أنفار من جنود أمريكيين ينتمون لقبيلة النافاهو Navajo البدائية. لاأظننا نفكر كثيراً بالحديث مع الريح ؛ لكننا قد نتحدث مع أنفسنا. مفردة (قد) هنا خاطئة. نحنُ نتحدث مع أنفسنا ؛ لكن كم؟ هذا هو السؤال الاشكالي.
نحنُ كائنات ضوضائية بدافع الحاجة أو التسلية أو الضجر. نصنع الضوضاء بشكل أو بآخر وبمناسيب متفاوتة. أفكرُ بمقياس للضوضاء البشرية شبيه بمقياس ريختر الزلزالي: سيكون الحد الأعظم فيه إشارة إلى كائن ضوضائي خالص لايعرف السكوت، يبدو كماكنة لاتتوقف عن إنتاج الضوضاء. في المقابل يكون الحد الصفري إشارة إلى كائن بشري أخرس، بَصْمَتُهُ الضوضائية تساوي صفراً. لن يكون أمراً شاقاً أن يحدس القارئ بأننا كائنات ضوضائية تقعُ بين هذين الحدّين المتطرّفين البعيدين عن مقدرات البشر.
هل ماكتبته أعلاه هو توصيف ذهني يتعالى على عالم البشر؟ لا. ثمة دراسات متخصصة ومعمّقة في علم النفس التطوري تؤكدُ أنّ البصمة الضوضائية يمكنُ أن تكون مقياساً تطورياً للأفراد. كيف؟ كلّما تعاظمت البصمة الضوضائية للفرد كانت قدراته العقلية والتخييلية أدنى من نظرائه ذوي البصمة الضوضائية الادنى. ربما التسويغ الاقرب لهذه النتيجة أنّ مَنْ يتكلمُ أكثر يفكرُ أقل.
كثيرة هي الحقائق والوقائع التي تؤكد صدقية هذه النتيجة. لكن من جانب آخر لابدّ للانسان من تواصل لغوي لكي يديم الفعالية الحيوية لدماغه. ماذا نستنتج بالضرورة؟ سيكون الاستنتاج أنّ من يتحدث أقلّ مع الآخرين لابدّ أن يتحدث أكثر مع نفسه بالمقارنة مع المكثرين من الحديث مع سواهم.
سمعنا كثيراً عن المشائين، وعرفنا أنّ كثرة من عظام المفكرين والفلاسفة والعلماء كانوا مشائين. لايشذّ نظراؤهم المعاصرون عن ذلك ؛ فهُمْ مشاؤون حتى في وقتنا الحاضر. يبدو لي أنّ المشي فعالية تتناغم مع الحديث الصامت إلى النفس، وحينها تنفتح مغاليق أمام الفكر البشري قد يعجب المرء من قدرتها، وسيظلُّ يتساءل: أين كانت هذه القدرات مخبوءة عني؟ يستحيلُ الامر مع المران والتكرار والمواظبة نوعاً من طقس يومي واجب ولايمكن تأجيله أو النكوص عنه لأي سبب كان.
المشي في فضاءات مفتوحة مقترناً بالحديث الصامت مع النفس موهبتان ثمينتان تتيحُ للمرء ولوج عوالم يستحيلُ ولوجها على مكثري الكلام وصانعي الضوضاء الصاخبة.