TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > مسيرة الخراب في العملية التربوية، محنة التعليم في العراق

مسيرة الخراب في العملية التربوية، محنة التعليم في العراق

نشر في: 19 ديسمبر, 2022: 10:51 م

فرات المحسن

القسم الاول

في تقرير للبنك الدولي عن مستوى التعليم في العراق، قدم إحصائيات مفزعة عن مستوى وعي الطالب العراقي وإدراكه لما يملى عليه من معارف.

فقد اظهر طلاب العديد من المستويات الدراسية، ومن خلال التقييم أعلاه، ضعفا شديدا في المهارات وعجزا فاضحا عن فهم ما يقومون بقراءته وتعلمه، وأبدى ما يقارب النصف من الطلاب وبشكل بائس عن عدم قدرتهم الإجابة بشكل صحيح على سؤال واحد ضمن مستواهم العمري والدراسي، ولم يتمكن نصف الخاضعين للاختبار والتقييم، من حل مسالة حسابية واحدة بشكل صحيح. هذا التقرير وغيره من الاستقصاءات والبحوث التي حاولت استعراض حالة وأوضاع العملية التربوية التعليمية في العراق، أشارت وبشكل مفزع لقصور وعجز فاضح في هذا النظام. وحددت الحاجة الفعلية الملحة والمستعجلة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وتدارك الانهيار التام، بوضع خطط قصيرة ومتوسطة المدى للخروج بالتعليم في العراق من حالة التردي والانحطاط التي وصل إليها.

ولكن يبدو أن النمط الشائع في التصدي للعملية التربوية في العراق، هو التخبط ومحاولات التصحيح الخاطئة والبعيدة عن إدراك مناطق الخطل والخلل، والتي دائما ما تسحب هذه المعالجات، السيئ نحو الأسوأ، بدلا من تصحيح الأخطاء أو تلافيها،ولذا وعلى مدى تاريخ طويل من عمر الدولة العراقية، تتراكم الخطايا والموبقات، لتزيد من حدة التردي والفساد. وبات من العسير معها ومن غير اليقين القدرة على إصلاح ما وصل الحال فيه لحدود الجريمة المقترفة بحق العملية التربوية برمتها، وانعكس هذا على باقي مناحي الحياة العلمية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، لا بل على مفردات الحياة اليومية للشعب العراقي بكافة قطاعاته، وليمثل ذلك بكامل مظاهره و تجلياته ذات أهداف الفكر الإرهابي التكفيري.

عام 1958 وتبركا بانتصار ثورة الرابع عشر من تموز أقدمت قيادة الثورة على منح الطلبة العراقيين، ما اعتقدته مكرمة تجلب الفرح والسعادة لقلوبهم، وتجعلهم وأهاليهم يستبشرون خيرا مع قدوم عهد الثورة المباركة الجديد.لذا قررت قيادة الثورة ووزارة التربية آنذاك، عدم اعتبار السنة الدراسية لعام 58 سنة رسوب.أي أن المتخلفين والراسبين من الطلبة في الامتحانات النهائية، رحلوا إلى صفوف متقدمة دون الأخذ بنتائج الاختبار الدراسي النهائي.

وبالرغم من تحذيرات البعض من التربويين والمختصين في مجال العملية التربوية والأكاديمية، حول الأضرار المستقبلية التي سوف تلحق بالعملية التربوية، جراء القرار الذي أطلق عليه حينذاك تسمية (الزحف)، فقد نفذت سلطة ثورة 14 تموز تعهدها، وكانت الفرحة كبيرة وشاملة لدى من كان متخلفا عن أقرانه من الطلبة.

لم تمض غير سنوات قليلة حين ظهر خطل ومضار ذلك القرار على مجمل العملية التربوية، وظهرت نتائجه السلبية في الكثير من مجالات التدريس والبحث، وبالذات في المدارس الثانوية والمعاهد والجامعات العراقية، وبدأ التشكيك برصانة العملية التربوية في العراق، يأتي ليس فقط من بين أوساط الباحثين والتربويين العراقيين، وإنما بادرت الكثير من الهيئات التعليمية والجامعات في أغلب دول العالم، والتي كانت لها علاقة جيدة بالعملية التدريسية العراقية،بدأت تشكك بقدرات ونتائج الطلبة العراقيين وتحصيلهم الدراسي.

وبالرغم من كون العملية التربوية اتجهت نحو علاقات أكاديمية وتربوية جديدة مع بلدان المنظومة الاشتراكية تعويضا عما أصابها من خسائر جراء العلاقات المتوترة مع الغرب على مختلف الأصعدة، ومنها العلاقات في جانب العملية التربوية والمتعلقة بالمنح والزمالات الدراسية، فأن الأمر أحتاج للعديد من السنوات للتعويض وتجاوز الخسائر والأضرار واستعادة العملية التربوية العراقية عافيتها ومنهجيتها الرصينة.

ما ترتب ونتج من أضرار عن ذلك الأجراء غير الحكيم، كان الواجب أن يكون درسا وإنذارا لتنبيه من يريد للعملية التربوية أن تكون أكثر رصانة وقوة وشفافية وفاعلية، وأن توضع قواعد صارمة توقف أي نوع من القرارات غير المدروسة،والتي ممكن لها المساس بالعملية التربوية، لما لذلك من تأثير على الحياة العلمية والعملية للعراق برمته.

من الجائز القول إن بداية سنوات السبعينات كان باستطاعة المرء وببساطة ملاحظة التحولات النوعية في مختلف مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العراق.وكانت تلك النقلات النوعية السريعة التي حدثت تضفي جانبا إيجابيا وتدلل على رغبة عارمة لدى المجتمع العراقي لاكتساب المعرفة والحصول على أحدث التقنيات والخبرات.ولكن تلك المكاسب والمنجزات أصيبت بانتكاسة خطيرة، ولم تستمر بذات الوتائر من التسريع لاكتساب المزيد من المعارف، وإنما قننت لصالح مشروع عسكري سلطوي. فقد تم تحويل تلك المعارف والخبرات والتقنيات لغرض بناء مشروع عسكري وترسانة سلاح هائلة، وترافق ذلك مع عسكرة واسعة للمجتمع، ومن ثم كانت النتيجة النهائية لتلك الإجراءات، حروب داخلية واعتداء على الجيران في غزوات بربرية عممت الخراب والكوارث. وقد وقع العراق من جراء ذلك الاستغلال المشوه للعلوم والتقنيات الحديثة في مطب خطر، قاد في نهاية الأمر نحو تدمير الحياة الثقافية والعلمية والاقتصادية.

لقد وضع المتخلفون من رجال سلطة البعث جميع موارد الدولة ومرافقها وبالذات العلمية منها طوع هوسهم ورغباتهم العدوانية. وكانت في مقدمة أهدافهم الحرص على ربط التغيرات الاقتصادية والعلمية والثقافية، بالتدابير السياسية التي تصب جميعها في الرغبة لإعادة ترتيب البيت العراقي، وفق النموذج الشمولي البعثي وتحت شعار ((كل شيء من أجل المعركة)).وما كانت تمثل تلك النداءات المستمرة عن المعركة الموعودة المفتوحة الاتجاهات والمتعددة الأغراض والأهداف لدى حزب البعث، سوى مفهومين متوازيين، تتمحور داخلهما باقي المهام والتطلعات ويبقيان دائما في طليعة الأهداف التي تؤطر المساعي الأخرى، أو أن المهام الأخرى يجب أن تستنبط من خلالهما، وتصب في خدمتهما في مختلف المراحل. وهذان المفهومان هما إخضاع وترويض أو تدمير مخالفي الرأي ومن ثم عسكرة المجتمع.

إخضاع أو ترويض الخصوم ومخالفي الرأي، أعتبر جزءاً مهما من البناء المرحلي التصاعدي لأسس المعركة التي أريد أن يسخر لها كل شيء.وهذا الجانب احتاج لتنفيذه طرق واختبارات عديدة.ومن تلك الطرق أسلوب الدوائر المغلقة، أو تنقية المراكز باتجاه الأطراف.حيث تكون بعض مرافق الدولة أو مؤسساتها حكرا على منتسبي حزب البعث، ولا يقبل فيها سواهم، مهما كانت الحاجة أو الضرورات.ولذا اعتبرت المؤسسة العسكرية في مقدمة الدوائر المغلقة، لا يقبل التطوع فيها لغير البعثيين.ومثلها مؤسسات الأمن والشرطة وبعض الدوائر الحكومية القريبة أو التي تصب خدماتها في صالح الجيش وأجهزة الأمن، وكانت تلك المهمة سهلة الإنجاز.ولكن للسيطرة على وإغلاق المؤسسات التربوية فقد احتاج الأمر لفترة زمنية طويلة بعض الشيء، وبدأ تنفيذه بآليات منهجية محكمة، شملت كامل هياكل مؤسسات الدولة التربوية والأكاديمية، وبالذات منها التعليمية، حيث أقتصر القبول في الكليات والمعاهد التي تخرج المدرسين والمعلمين على أغلبية من الطلبة البعثيين، وتطور الأمر مع مرور الوقت، لتقفل تلك المؤسسات الأكاديمية بوجه من لم يحصل على تزكية حزبية، ثم تبعه تأطير كليات ومعاهد محددة، واقتصار القبول فيها على الطلبة من البعثيين، مثل كلية التربية والهندسة وأكاديمية الفنون والجامعة التكنولوجية وكليات أخرى.

مثلت الحرب العراقية الإيرانية منعطفا جديدا أضفى تداعيات خطيرة على العملية التربوية، ليس فقط على مستوى المناهج وإنما تعداه نحو عموم الجو الدراسي وحجم الملاك التدريسي، مما أضطر السلطة لدمج المدارس واختزال التعليم إلى أدنى مستوياته، تلبية لما سمي باحتياجات المعركة. فقد كانت أعداد كبيرة من خريجي الدراسات الجامعية والمعاهد، يستدعون إلى الخدمة العسكرية أو يساقون في فصائل الجيش الشعبي التي تتوجه شهريا نحو جبهات القتال، حيث تذهب منهم أعداد لا يستهان بها كضحايا لتلك الحرب العبثية المجرمة، يضاف لذلك هروب البعض أو تهربه من الخدمة العسكرية،مما سبب شحا فعليا في أعدد الكادر التدريسي في عموم العراق.

يمكن القول إن من أكثر مسببات الخراب العام الذي طال العملية التربوية يقع عند وجهين متلازمين، وهما السببان الرئيسيان اللذان نشرا السوس الذي نخر العملية التربوية برمتها، الأول: مشاركة الطلبة في العمل الحزبي وقواطع الجيش الشعبي.فالطالب يمنح درجات أضافية تفوقيه حسب عدد مشاركاته في قواطع الجيش الشعبي أو مقدار النشاط والخدمة الحزبية في منطقته.هذه الدرجات الإضافية تسمح له التفوق على باقي أقرانه ممن لم يؤدوا ذات العمل العسكري والسياسي.ويمكن للطالب الحصول على درجات إضافية إذا كان أحد أقاربه من الدرجة الأولى، قد قتل في جبهات القتال أو نال أحد أنواط الشجاعة.

من خلال هذا الأمر إستطاع الكثير من الطلبة وبالذات طلبة الإعدادات والثانويات الحصول على معدلات تفوق كبيرة، ساعدتهم في الدخول إلى كليات لم تكن معدلاتهم الحقيقية تسمح بأن يجلسوا على مقاعدها الدراسية، أو الحلم بمثل هذا الأمر أو حتى الحصول على فرصة الدراسة في المعاهد التأهيلية. فطالب المرحلة الإعدادية بمعدل درجات تخرج واطئة جدا، يحصل على درجات إضافية لمشاركته في دوريات الجيش الشعبي وفي جبهات القتال و من حصوله على نوط شجاعة، و درجات أخرى عن مشاركته في الواجبات الحزبية وكتابة التقارير، وكذلك درجات إضافية عن تبرع عائلته بالمال لدعم المعركة، وربما نال درجات أخرى لأسباب عديدة يتم تصنيفها وترتيبها في المؤسسة الحزبية والأمنية، التي باتت تشرف على كل شيء في أرض العراق.إذن فأن الطالب هذا قد حصل على معدل يفوق درجة 100 ‌% ، ولن يستطيع أن ينافسه أي معدل أخر، ومع هذا المعدل أصبح بوسعه الدخول في أي كلية يختارها دون اعتراض أو عوائق.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

دراسة: الضوضاء قد تزيد من خطر الإصابة بنوبة قلبية

ضد منافس شرس.. متى تفوز المراة بحقوقها؟

ما حقيقة استقالة وزير النفط؟

البرلمان يعتزم اطلاق دورات تثقيفية "إلزامية" للمقبلين على الزواج للحد من العنف والطلاق

(المدى) تنشر قرارات جلسة مجلس الوزراء

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

كيف يمكننا الاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟

العمودالثامن: متى يعتذر العراقيون لنور زهير؟

العمودالثامن: حين يقول لنا نور زهير "خلوها بيناتنه"!!

العمودالثامن: لماذا يكرهون السعادة؟

العمودالثامن: أين اختفوا؟

العمودالثامن: أين اختفوا؟

 علي حسين ظل السادة خضير الخزاعي وأسامة النجيفي وصالح المطلك وإبراهيم الجعفري وفؤاد معصوم وعباس البياتي وعتاب الدوري وحسن السنيد وغيرهم يهلّون علينا كلَّ يوم قبل الغداء وبعد العشاء من خلال الصحف والفضائيات،...
علي حسين

كلاكيت: البحر الأحمر في فينيسيا

 علاء المفرجي بعد مشاركتها في الدورة السابعة والسبعين من مهرجان كان السينمائي لعام 2024م، من خلال أربعة أفلام سينمائية وعدد من المبادرات والفعاليات. وتتضمّنت قائمة الأفلام التي حصلت على دعم المؤسسة: "نورة" للمخرج...
علاء المفرجي

تدهور الرعاية الصحية الراهن لا تُعالجُه الوعود المعسولة!

د. كاظم المقدادي أنتجت المنظومة السلطوية القائمة على المحاصصة الطائفية والإثنية، وتقاسم النفوذ والمليارات، والمناصب والإمتيازات، ظواهر بغيضة، كالتسلط والهيمنة على مقدرات البلد، بدأتها بإفراغ الوزارات ومؤسسات الدولة الأخرى من الموظفين الكفوئين إدارياً وذوي...
د. كاظم المقدادي

عن المرجعية الدينية

حيدر نزار السيد سلمان كتب ويكتب الكثيرون عن خليفة المرجع الديني اية الله العظمى السيد علي السيستاني بالإضافة إلى جهود بعض مراكز البحوث المهتمة بالشأن العراقي، وهذا دلالة على أهمية المرجعية الدينية من النواحي...
حيدر نزار السيد سلمان
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram