TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > مسيرة الخراب في العملية التربوية، محنة التعليم في العراق

مسيرة الخراب في العملية التربوية، محنة التعليم في العراق

نشر في: 20 ديسمبر, 2022: 11:05 م

فرات المحسن

القسم الثاني

الوجه الأخر للمصيبة تمثل في قوة وسطوة القرار التسلطي الذي فرض في المدارس والجامعات من قبل الجهاز الحزبي الذي مثله الاتحاد الوطني لطلبة العراق. فتلك المؤسسة الحزبية الأمنية مثلت عند نهاية السبعينات سلطة القرار الفعلي الذي يفرض شروطه وإرادته، ليس فقط على الطلاب وإنما بات يتحكم بالعملية التربوية بالكامل ويملي قراراته على الهيئات التدريسية. ومن خلال التقارير التي ترفع إلى الجهاز الحزبي والمؤسسات الأمنية، يتم التدخل لا بل إدارة العملية التربوية.

وكانت تلك التقارير في أغلبها عبارة عن مديح للمتعاونين من الأساتذة، أسهمت في تقدمهم عبر السلم الوظيفي، أو وشايات وأكاذيب يراد بها تطويع من يرفض الوصاية أو يخالف القرارات الحزبية. وراح ضحية تلك التقارير الملفقة الكثير من التدريسيين الذين شملتهم عقوبات شتى، مثل الحبس أو الفصل أو النقل، ووصل في البعض منها إلى حالات التغييب والإعدام .

ومثلَ السوق لقواطع الجيش الشعبي الذاهبة لجبهات القتال واحدة من أكثر التهديدات والعقوبات شيوعا.وبسبب تلك التهديدات والوضع الاقتصادي السيئ، فقد بدأت هجرة منظمة للتدريسيين إلى خارج العراق.ولذات الأسباب إنصاع الكثير من التربويين وقدموا خدماتهم الطوعية وفق ما تمليه عليهم إرادة الحزب وذراعه الطلابي الاتحاد الوطني. فمنهم من تطوع ليقدم لبعض الطلبة أسئلة الامتحانات أو يتغاضى عن الغش، أو يرفع من الدرجة الممنوحة للطالب. وحدثت تجاوزات مفزعة وصلت في بعضها قيام الأساتذة بكتابة الرسائل والأطاريح، التي يسعى الطلاب من المتنفذين في الحزب، تقديمها لنيل شهادتي الماجستير أو الدكتوراه.هذا الأمر ساعد على ضخ أعداد هائلة من التدريسيين الفاشلين بين أروقة وزارة التربية ووزارة التعليم العالي وفي المدارس والمعاهد والجامعات، وسبب في حدوث كارثة وطنية شاملة، تتمثل في سوء الإدارات لقطاع التعليم وإشاعة مناهج تعليمية ضيقة الأفق حزبية التوجه، ذات معلومات سطحية متخلفة، تقدم وتدرس بأساليب وطرق تدريس بائسة ومملة تعاني من الفقر المعرفي وغياب المنهجية.

إن دمار مؤسسات التعليم ينظر إليه ضمن الكوارث الناجمة عن الحروب، لكنه يشكل أيضا إحدى أسوأ عواقب العقوبات الاقتصادية والفوضى المستمرة.فقد شكلت سنوات العقوبات الاقتصادية القشة التي قصمت ظهر البعير.فعلى امتداد سنوات الحصار التي إستغلها نظام حزب البعث لصالحه بأقصى مديات الاستغلال، وحول الحصار الاقتصادي لتجارة درت عليه الأموال الطائلة، عانت المؤسسات التعليمية والعملية التربوية برمتها من الفوضى والنقص في الموارد المالية والمعرفية، وعاش العراق انقطاعا شبه تام عن العالم، ولم يكن ذلك ليقتصر على شح الموارد المخصصة لقطاع التعليم أو النقص في المصادر المعرفية والكتب ومواد القرطاسية فقط، وإنما أصبح قطاع التدريسيين وكذلك الطلبة عرضة للإفقار والجوع، مما أضطرهم للبحث عن مصادر رزق أخرى لهم ولعوائلهم، وصار التدريس والتعلم يمثل الدرجة الدنيا في سلم أولوياتهم،وهجر الكثير منهم مقاعد الدراسة أو الأستاذية، ليبحث عما يسد به الرمق ويبعد غائلة الجوع، الذي بدأ ينهش الجميع دون السلطة الحاكمة.ومن أجل سد العوز باع بعض الأساتذة جهودهم ومعارفهم بأبخس الأثمان، حيث نشأت تجارة بيع وشراء واسعة، تبدأ من المراحل الدراسية الأولى حتى الدراسة الأكاديمية، وبرزت بحدة ظاهرة الدروس الخصوصية التي كانت تقتصر على الطلبة من ميسوري الحال، وفي تلك الدروس الخصوصية كانت تحدث مساومات لبيع الجهود والمعلومة، ويعتمد ذلك على مقدار المبالغ المدفوعة للأستاذ في الحصول على النتائج الإيجابية بالنسبة للطالب. ومنذ أواسط الثمانينات بدأ بتعيين وإشراك الخريجين الجدد في مجال التدريس، وهم أغلبية ممن كانوا قد حصلوا على شهاداتهم الدراسية عن غير جدارة وعبر الشراء بالمال أو مساهمة روابطهم الحزبية بشكل حاسم لمنحهم تلك الشهادة.

لقد تعرضت العملية التربوية في العراق على يد حزب البعث ومرتزقته لعملية تدمير وتخريب منهجي، سعى فيها حزب البعث إلى وضعها في أقصى حالات التردي عبر حصرها في وجهة واحدة تمثل أهدافه السياسية، فكانت حصيلة كل ذلك فقر وتخلف ثقافي ومعرفي لف أغلب الهيئات التدريسية التي تقود العملية التربوية وهذا ما أفصحت عنه الوقائع بشكل جلي بعيد سقوط حكم حزب البعث.

أظهرت دراسة أجرتها الأمم المتحدة ، أن 84% من مؤسسات التعليم العالي في العراق تعرضت للتدمير والتخريب والنهب منذ بداية الاحتلال سنة 2003، إضافة إلى اغتيال ما يقارب الـ 120 أستاذا جامعيا وهناك الكثير من التهديدات اليومية التي توجه إلى العديد من العاملين في قطاع التعليم.

ما يحدث اليوم وما ظهر بعد عام 2003 أي عام سقوط سلطة البعث، يبدو في ظاهره، ليس فقط ناتج عملية تراكمية للأساليب والطرق السيئة وغير الذكية التي جرت عليها العملية التربوية من قبل، ورافقها الفشل الذريع في مسيرة التعليم وتفشي كل هذا الخراب الموجع، لا بل هناك مستجدات طرأت على العملية التعليمية وبأساليب مستحدثة، صعدت من حدة هذا الخراب وقادت إلى إرتكاس وخيبات جديدة، وصيرتها في أوضاع مأساوية فاقت في تخريبها ما سبقها من أخفاق وعثرات. فالعملية التربوية بظواهرها المحسوسة والملموسة تواجه اليوم مشاكل ذات طابع مستحدث، بزت به ما تعرضت له من تخريب على عهود ما قبل عام 2003. حيث تفرض اليوم أفكار وتستنبط طقوس غيبية غريبة على الوسط التعليمي، وبنماذج وأساليب قسرية مفزعة، من خلال محاولات مكثفة لتمرير تلك الطقوس والأفكار وجعلها ضمن المناهج الدراسية، بالرغم من بعد هذه الطقوس والرؤى والأفكار عن مفاهيم التعليم العلمي الرصين، ولكن نجدها تُنشر بقوة وتفرض داخل أروقة المدارس والجامعات وبمختلف المراحل، ولا يقتصر هذا الترويج والتعميم فقط بين أوساط الطلبة، وإنما يفرض على إدارات العملية التربوية بمختلف مفاصلها. ومن الواضح أن كل هذا يأتي من خلال تدخل أغلب الأحزاب والقوى السياسية والمليشيات والعصابات والمصالح الشخصية.وتحولت هذه الممارسات إلى تجارة رائجة، يرافقها فساد إداري ومالي يضرب أطنابه بعيدا في جميع المراحل والمرافق التعليمية، مما أحال التعليم لساحة صراع ونهب وسلب ومساومات،وتعطيل للفكر والتحليل الموضوعي، وبات معها التعليم في حال يرثى له.

لم تكن العملية التربوية على عهود سبقت عام 2003 لتخلو من وجود تزوير في النتائج والوثائق والشهادات الدراسية، ولكن مع بداية سقوط سلطة البعث، انتشرت بين أروقة المدارس والكليات بكثافة وكثرة غريبة، جريمة الشهادات المزورة، واتهم العديد من المسؤولين في قطاع الدولة ومنها المؤسسات التعليمية بنيل تحصيلهم الدراسي من خلال تلك الشهادات، وأطلق على حملة هذه الوثائق مسمى خريجي جامعة مريدي، مما يعني حصولهم على تلك الوثائق المؤهلة للتخرج من خلال السوق الشعبي في مدينة الثورة، حيث انتشرت هناك دكاكين خاصة لتزوير الشهادات وباقي الوثائق والمستندات الرسمية لمختلف دوائر الدولة، ولم تتوقف هذه الجرائم حتى في حال توفر وثيقة أخرى سميت بالأعراف الرسمية وثيقة صحة الصدور.

وبموازاة تلك الكارثة ، انفتح المشهد التعليمي على نيل الآلاف من الطلاب لشهادات تخرج منحت لهم من قبل جامعات غير رصينة، لا بل غير مؤهلة أصلا للتدريس، إن كانت داخل أو خارج العراق، بل إن البعض منها ليس له علاقة بالعلوم ومعايير وتقاليد المناهج الدراسية، وإنما اختصاصها يصب حصرا في الشؤون الدينية البحت، ولكن بعض الإدارات في المؤسسة التعليمية، وبسبب الارتباط بواقع الفساد الإداري، جرى احتساب مستواها واختصاصها، بما يعادل باقي الشهادات الجامعية الرصينة.

وبالرغم من إلغاء وزارة التعليم العالي والبحث العلمي اعترافها بالعديد من الجامعات في الخارج، ومنها الإيرانية واللبنانية والمصرية، من مثل (الجامعة الحديثة للإدارة والعلوم والجامعة الإسلامية في لبنان). وقد حُذفت من سجلات الوزارة أكثر من 27 جامعة إيرانية، واتخذت قرارات صارمة في نظام تقييم الشهادات. ولكننا نجد الكثير من خريجي الكليات والمدارس العراقية مازالوا يتقدمون للدراسة العليا في تلك الجامعات وبالذات الإيرانية واللبنانية، ولأسباب كثيرة منها وجود نموذج الدراسة عن بعد أو امتحان الكورسات الدوري، وأيضا وهو المهم سهولة النجاح فيها والحصول على شهادة التخرج وبامتياز. ودائما ما تكون هناك وساطات ورشى لتسهيل الاعتراف بهذه الشهادات من داخل الوزارة، كون أغلب هؤلاء الطلاب هم من أبناء الأساتذة أو بعض المتنفذين من المسؤولين الحكوميين أو من لهم علاقة بشكل وآخر بالقوى والأحزاب صاحبة الكلمة العليا في السلطة.ويبدو أن أولى فوائد الحصول على هذه الشهادة ، يأتي عبر التغيير في التدرج الوظيفي وزيادة الراتب.

في نفس الوقت سمحت وزارة التربية ومثلها وزارة التعليم العالي بافتتاح مدارس وجامعات أهلية ربحية، ما كان الكثير منها ليلتزم بالمعايير والرصانة التعليمية ، بقدر سعيه للحصول على المكاسب المالية، وما عادت تلك المدارس والجامعات تخضع بشكل دوري للمتابعة والمحاسبة من قبل الوزارتين. وارتباطا بهذا الأمر دائما ما يوجه الاتهام لموظفين في الوزارتين بالتواطؤ مع أشخاص يسعون للحصول على مكاسب مالية، عبر السماح لهم بتأسيس مثل تلك الصروح ،رغم ما عرف عن تلك الجامعات من قصور فاضح بمستوى الكفاءات التدريسية، وخلو مناهجها الدراسية من المعايير العلمية والأدوات التقنية والفنية. لذا يتخرج سنويا العديد من الطلبة دون مؤهلات علمية حقيقية، وأيضا وبسبب هذا النوع من الجامعات تضخ إلى عالم البطالة والتسكع أعداد هائلة من الشباب .

ولكن الأخطر ما في الأمر، يأتي من السماح بمنح تراخيص لفتح كليات الطب وطب الأسنان والهندسة والصيدلة، وبمعدلات تقل كثيرا عن معدل القبول في الجامعات الحكومية، بالرغم من معرفة الوزارة بالشح الكبير في كوادر التدريس لمثل تلك المواد العلمية في الكليات الرسمية، فكيف يكون الحال في الكليات الأهلية، ومع وجود العديد من الطارئين على مهنة التدريس في مثل هذه الاختصاصات.

مثلَ انتشار السلاح وعدم استقرار الوضع الأمني، والتجاء الناس لقواها الاجتماعية من عشيرة وطائفة،الملمح الأكثر خطرا وبؤسا في وضع التعليم في الراهن من الوقت. فتدخل الأحزاب والقوى السياسية والمليشيات في العملية التربوية،وعجز الدولة عن حماية الكثير من قطاعات مؤسسات الدولة، ومنها قطاع التعليم، لذا نشاهد ونسمع يوميا وقائع مؤلمة، يتعرض فيها الكثير من الأساتذة للابتزاز والتهديد، وبات البعض منهم معرضا وبشكل يومي وسافر للاعتداء والترهيب، حيث يحاصر ويهدد التدريسي اجتماعيا ووظيفيا، ويجبر على حرف مهامه الوظيفية ونتائج اختباراته أرضاءً لمبتزيه، مما أثر ويؤثر بشكل بالغ الخطورة على مستوى وطبيعة الدراسة وكذلك على حياة الأساتذة المهنية والاجتماعية.وقد تحولت بعض الجامعات والمدارس بسبب تدخلات وسطوة الأحزاب والقوى المسلحة لضياع وممالك ومقاطعات خاصة، تمارس فيها جميع أنواع الموبقات والمتع المستهجنة وغير الرصينة، وتشيع وسطها لغة التجهيل والخرافات ويهان فيها التعليم والمعلم.

ودائما ما شكلت العطل الرسمية وغير الرسمية والمناسبات الدينية واحدة من أكثر مجالات القطع والتسرب من الدراسة، ليصبح تأثيرها مجالا تخريبيا لمجمل العملية التدريسية، وبات وقعها السلبي شديد الوطأة على مستوى أداء الأساتذة والطلبة ومن ثم النتائج المستقبلية للعملية التربوية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

دراسة: الضوضاء قد تزيد من خطر الإصابة بنوبة قلبية

ضد منافس شرس.. متى تفوز المراة بحقوقها؟

ما حقيقة استقالة وزير النفط؟

البرلمان يعتزم اطلاق دورات تثقيفية "إلزامية" للمقبلين على الزواج للحد من العنف والطلاق

(المدى) تنشر قرارات جلسة مجلس الوزراء

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

كيف يمكننا الاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟

العمودالثامن: متى يعتذر العراقيون لنور زهير؟

العمودالثامن: حين يقول لنا نور زهير "خلوها بيناتنه"!!

العمودالثامن: لماذا يكرهون السعادة؟

العمودالثامن: أين اختفوا؟

العمودالثامن: أين اختفوا؟

 علي حسين ظل السادة خضير الخزاعي وأسامة النجيفي وصالح المطلك وإبراهيم الجعفري وفؤاد معصوم وعباس البياتي وعتاب الدوري وحسن السنيد وغيرهم يهلّون علينا كلَّ يوم قبل الغداء وبعد العشاء من خلال الصحف والفضائيات،...
علي حسين

كلاكيت: البحر الأحمر في فينيسيا

 علاء المفرجي بعد مشاركتها في الدورة السابعة والسبعين من مهرجان كان السينمائي لعام 2024م، من خلال أربعة أفلام سينمائية وعدد من المبادرات والفعاليات. وتتضمّنت قائمة الأفلام التي حصلت على دعم المؤسسة: "نورة" للمخرج...
علاء المفرجي

تدهور الرعاية الصحية الراهن لا تُعالجُه الوعود المعسولة!

د. كاظم المقدادي أنتجت المنظومة السلطوية القائمة على المحاصصة الطائفية والإثنية، وتقاسم النفوذ والمليارات، والمناصب والإمتيازات، ظواهر بغيضة، كالتسلط والهيمنة على مقدرات البلد، بدأتها بإفراغ الوزارات ومؤسسات الدولة الأخرى من الموظفين الكفوئين إدارياً وذوي...
د. كاظم المقدادي

عن المرجعية الدينية

حيدر نزار السيد سلمان كتب ويكتب الكثيرون عن خليفة المرجع الديني اية الله العظمى السيد علي السيستاني بالإضافة إلى جهود بعض مراكز البحوث المهتمة بالشأن العراقي، وهذا دلالة على أهمية المرجعية الدينية من النواحي...
حيدر نزار السيد سلمان
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram