حيدر المحسن
أمتع الأوقات تلك التي نقضّيها ونحن نحلم، وهذه الرّؤى تختلف عن تلك التي تعتمل فينا عند اليقظة، فكأنّما الأولى من صنع الإله مورفيوس، والثّانية من عمل بني البشر. وكثيرا ما تأتيني صور الكتابة في المنام، وتبقى تعيش معي في النّهار، وبمرور الأيّام تختلط عليّ الأمور ويتشابك ما قام به الإله، وما عمدت يدي إليه. وأسأل نفسي الآن، هل كانت الرّؤية التي تحضرني بين وقت وآخر عن لقائي بالصديق لؤي عبد الإله، مما رأيته في المنام أم أن الجلسة كانت على أرض الواقع.
المكان هو أحد مقاهي بغداد، في البتّاوين أو في حيّ الفضل، وربما كان المكان غير أرضيّ اختاره لنا إله النّوم، وبين يدينا على الطاولة كتاب استعمله القرّاء كثيرا قبل أن يصلَ إلينا، وتنبّهتُ إلى كتابة ممحوّةٍ ومشطوب مكانها بأقلام عديدةٍ وبألوان مختلفة. سألتُ صديقي: - ما رأيك بهذا التّزاحم في الخطوط والأحرف على غلاف الكتاب؟
أجابني:
- ربما كانت عبارة قيلت بصيغة معكوسة بين فريقين من القارئين، فواحد يكتب: “هذا أحسن كتاب قرأته في حياتي”، ويأتي آخر ويشطب عليها ويسطر المعنى المقلوب، فيذمّ الكاتب بكلام لا يعجب القارئ الثالث يمحوه... وهكذا تعدّدت الآراء حتى غابت كلّها”.
انتهى الحلم، أو انقضت الذكرى. وكنتُ كتبتُ مقالا عن قصة «مدرسة المكارم» ونشرته في زاويتي “كلام عاديّ جدا” قبل حوالي سنتين. قلتُ فيه إن “القصة العظيمة هي التي يشعر فيها القارئ بالطّمأنينة إلى وجود شخوصها، لهم من قوة السّحر التي لا تجعل لا شيء في ذهن القارئ وفي وجدانه يعود كما كان”. ثم عثرتُ في أحد الأيام بعد ذلك التاريخ على دراسة نشرتها الناقدة فاطمة المحسن في صحيفة «الحياة» البيروتيّة عن مجموعة القاصّ “أحلام الفيديو” التي تضمّ هذه القصّة، ومما توصّلت إليه السيدة المحسن، والنقلُ هنا من الذاكرة لأن المقال فقدتُه ولم أعثر عليه الآن، أن الكاتب حادّ في عمله هذا عن الطّريق الواقعيّ وغير الواقعيّ، بمعنى أن أحداث القصّة تجري كأنما في كوكب آخر، فهي إذن مما لا ينتمي إلى الأدب القصصي العراقي. كانت حجّة الناقدة أن الصبيان في زماننا يعرفون أكثر بكثير مما يجهله التلاميذ في “مدرسة المكارم”. لكن الفضاء الذي يعيش فيه أيّ عمل فنّي لا يتحدّد بهذا الحيّز المعتم الذي نعيش فيه وندعوه بالواقع، وكلّما استطاع الفنّان الخروج من إطار هذا الأسْر، تمكّن من الإفلات من السجن والانطلاق إلى الحياة، وإلّا ما هي وظيفة الفن؟ لا يستطيع أحدٌ إطفاء نور الشّمس بغربال، كما يقول المثل، وأدب السيّدة فاطمة المحسن النقدي يشعّ في سمائي مثل الشّمس، فأنا أعود إليه دائما، ولا أملّه، وأحمل أحد كتبها حتما معي في السفر، لأنها جاءتنا بالبديع من فنّ الكلام في علم النقد، وأحفظ لها جملا طويلا عن ظهر قلبٍ. كما أني أعدّ ما تقوله عن الأدب في كثير من الأوقات كأنه نصّ موازٍ للأدب الذي تقوم بدراسته، وربما تجاوزه في الروعة والإتقان، وأتمنّى كثيرا أن يكون ما رأيته في هذه القصة من رأي هو مما تنجبه بنات أفكارنا، وما خطّته النّاقدة سوف يمكث في الأرض.
إن الانفعال الجمالي لحالة الخلق والإبداع والسّحر الكامن فيه هو الذي يقود خُطانا في الأخير. درستُ في مقالي السّابق حالة القِران بين فنّيْ القصّة والرّسم الحديث، ودعوتُ المقال “لؤي عبد الإله رسّاما”، وأتمنّى أن أعود إلى القصّة ثانية في أحد الأيام للبحث في الحمّى التي أصابت الأولاد، وهم ينتظرون أن يُفشي الصّبيّ الملقّب “هادي بودرة” بسرّه إليهم، وقد كانت تشتعل في نفوسهم وأبدانهم قرابة أسبوع أمضَوْه جميعا في الفراش