سلام حربه
يعرف اليقين على أنه زوال الشك وانعدامه واعتقاد راسخ وثقة تامة بأمر واقع، وقد تبلور هذا المفهوم ونبت في عقل البشر مع ظهور الأديان وخاصة السماوية منها،
لأن ما نزل من نصوص ربانية فيها من الحقائق التي لا تقبل الزيف ولا اللف والدوران وغير خاضعة للتعدد والشرح والقولبة ولم يقتصر اليقين عند هذا الحد بل تجاوزه الى كلام الزهاد والمتصوفين والفلاسفة وما جاءت به الأديان الأرضية التي رافقت نشوء البشر من لحظة تفتح عقله ووعيه ودخلت قصص وأساطير تلك الاديان وما قاله انبياؤها ورهبانها وما ذكروه من احاديث وما تركت من نصوص وطقوس عبادية بأنها يقينية لا يرقى اليها الشك وتدخل ايضا ضمن حيز التقديس واعتبر فقهاؤها أن دياناتهم سماوية وهم موحدون ايضا ولا يختلفون عن الديانات اليهودية والمسيحية والاسلام بل أن هذه الديانات الارضية تسبق السماوية بأكثر من الف عام وكثير من نصوصها نفذ الى كتب الرب دلالة على المصدر الواحد لكل الاديان كما تدعي الديانة المندائية والزرادشتية والهندوسية وغيرها من الديانات (البشرية).
لقد وقف اليقين الديني ضد كل من يحاول أن يفسد سطوته وهيمنته على العقل البشري وخاصة حين وطأت قدما العلم أرض الحقيقة وتوالت الابحاث المختبرية والكشوفات الموقعية الميدانية والتوصلات المذهلة لطبيعة الكون ولحظة خلقه والانسان وكيف وجد على هذه الارض دون أن يغفل العلم التنقيب في أصول الاديان وتفكير الانسان البدائي وفهمه لعملية الخلق وظهور الآلهة المتعددة وكيف تمت هيمنة اله واحد كبير عليها بيده كل شيء الخلق والحياة والموت وملاحقة كل الظواهر السماوية وتدوينها من اجل الوصول الى اسرارها وما تخفيه من عجائب الامور. ما زال العلماء حتى يومنا هذا ينقبون في كل ما تركه الانسان القديم من اجل التحقق من المراحل التطورية للعقل البشري ووقفوا على كل حضارات الشعوب القديمة من سومرية وبابلية وفرعونية ويونانية وفارسية ورومانية وكل الآثار وقرأوا اشارات وحروف كتاباتها مما دونه الاقدمون على الالواح الطينية والصخرية وعلى جدران الكهوف والمعابد من اجل صياغة منهج علمي لمراحل تطور الانسان ونمو عقله وتفكيره منذ خمس ملايين سنة من تاريخ ظهور الانسان البدائي على الارض وحتى يومنا هذا. لا يوجد في العلم حقيقة مطلقة وما كان حقيقة راسخة ( يقينية ) في السابق امتدت الى البعض منه يد الشك والوهم والبهتان وما كان غير معقول قديما امتدت اليه اصابع المعقولية ووجدوا فيه حقائق كثيرة كامنة وتم رفع غشاوة الجهل والعمى عنه بعد ان طور العلماء تقنياتهم الحديثة من خلال التجربة والتقصي والبحث في المختبرات وطوروا نظرياتهم العلمية بما تنسجم مع كشوفاتهم وابحاثهم. لقد رافقت الفلسفة العلم وظهر الى الوجود فلاسفة وقفوا بقوة امام المنطق اليقيني الجامد المهيمن على العقل سواء هنا في الشرق امثال ابن رشد والفارابي وابن خلدون وغيرهم من فلاسفة العرب او في الغرب كما في طروحات سبينوزا وديكارت وكانت ونيتشة ولازمت الفلسفة العلم حتى ان ديكارت أطلق مقولته المشهورة (أنا اشك اذن انا موجود) او (انا افكر اذن انا موجود) وما دلالات هذه المقولات والكثير غيرها الا للتأكيد على اهمية العقل البشري وكونه هو المطلق وحقيقة الوجود الازلية، ومناهج هذا العقل وانماط تفكيره هي من تفتح مغاليق واسرار وغرائب هذا الكون المبهم. لم يمض العقل البشري المسلح بالعلم والباحث عن الحقيقة على الدوام في ارض مفروشة بالورود بلا عواقب ومنغصات بل وقف امامه اليقين الديني بكل اسلحة الجمود والقيود التي تعرقل حركته الى امام خاصة حين بدأت فتوحات العلم تعري المقولات اليقينية الباهتة كما حصل مع العالم غاليلو الذي أقر بكروية الارض وليس سطحيتها فحكم عليه الكهنوت الديني بالزندقة والموت أو حين اكتشف العلماء مراحل خلق الانسان منذ ملايين السنين وأين وكيف تطور ليغدو على ما هو عليه من شكل حديث وان خلقه لم يكن واحدا هو والمملكة الحيوانية قاطبة بل تطور من كائنات بدائية ولم يكن حجم عقل، الانسان الاول، اكثر من ثلاثمئة وخمسون سنتمترا مكعبا وضل يتطور قرابة خمس مليون سنة حتى وصل حجم عقل الانسان الحديث الف وخمسمئة سنتمتر مكعب. الاحفوريات تؤكد ان الانسان نشأ مع القرود ( الشمبانزي ) من اصل واحد وليس كما يدعي البعض ان أصل الانسان قرد والحيوانات الموجودة تطورت من كائنات بدائية لا تشبهها ورغم كل هذه الكشوفات لكن العلم ما زال يؤكد بان هناك الكثير من الحلقات والامور الحياتية والميتافيزيقية ما زالت مبهمة عند العلماء وتحتاج الى أزمنة غير معلومة كي يتوصل الى بعض حلولها من خلال علم اكثر تطورا وعقل اكثر استيعابا وفهما للمتغيرات الكونية. من وضع الاديان السماوية في موقف لا تحسد عليه في زمن العلم وثورته التكنولوجية هم علماء هذه الاديان وفقهائها حين جعلوا ما هو رباني وغير قابل للتفسير والاجتهاد بعدا بشريا وفسروا النصوص الدينية حسب بيئاتهم وعقائدهم القديمة ومناهجهم ومرجعياتهم التاريخية والاصولية وحسب الاعراف التي تربوا عليها والعادات والتقاليد التي نشأوا فيها وجعلوا الدين احزابا وفكرا دينيا ينسجم مع نزعاتهم الشخصية ومصالحهم الدنيوية واصبحت تفسيراتهم الفقهية مقدسة كالنصوص الدينية وظهرت الى الوجود المذاهب والفرق الدينية وهي الوجوه الجديدة للدين الذي توارى بعيدا ولم يعد له من أثر وحتى كلامه الذي لا يؤول اصبح عاديا ومن حق كل شخص ان يُنظّر ويفتي فيه، لقد حذر الامام علي ( ع ) من محاولات تأويل النصوص القرآنية حين قال ( القرآن الكريم حمال اوجه ) وهذا يعني تعدد التأويلات لاي نص قرآني مما يضع هذه النصوص ضمن جدال وحوار وامزجة وقصور عقول البشر مما يفقد النص الديني قداسته ورهبته ويغدوا كلاما بشريا حاله حال اي كلام عادي. لقد جن جنون يقين العلماء الديني ووقف في طريق أية حركة اصلاحية سواء كانت دينية او اجتماعية من اجل دفع عجلة المجتمع الى امام واعتبروها خروجا على تعاليم وشريعة الدين وطعنا في كلام الله المقدس، ووضعوا المناهج المذهبية وخاصة المتطرف منها تعبيرا عن اهدافهم ووجهتهم السياسية، مناهج لا تمت الى العقل بصلة وخالية من العمل بالرأي والاجتهاد ومبدأ الحسن والقبح العقليين وهذا الامر انسحب حتى على الذين يؤمنون بالشهادتين وقتلْ البعض من الاقوام حتى لو اسلمت وأسست الارهاب والعنف في كل بقاع العالم وما القاعدة وداعش الا صورا لهذا اليقين الاعمى، والدين منه براء، الغرض منه الاساءة الى الاسلام الحنيف وكابحا للتقدم والمدنية ومنع كل محاولة تجديدية والتعامل العقلي مع النصوص الدينية وجعلها عصرية تنسجم مع روح البلدان تساهم في اغنائها الروحي وتقوية نسيجها الاجتماعي والحضاري وهذا هو هدف الدين الاسلامي ورسالته الانسانية ويقينه ليس متحجرا بل ديناميكيا ينسجم مع حركة التاريخ وسموه في سجل الحرية..