اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > استشراق (ادوارد سعيد) في ترجمته الرابعة

استشراق (ادوارد سعيد) في ترجمته الرابعة

نشر في: 27 ديسمبر, 2022: 09:44 م

لطفية الدليمي

سيظلُّ إدوارد سعيد (مالئ الدنيا وشاغل الناس) حتى بعد مايقربُ من عقدين على رحيله. ليس في الأمر من مفارقة ؛ فالرجل كان متعدد الاهتمامات،

وكان يعوم في محيط تصبُّ فيه تيارات معرفية متعددة، فضلاً عن أنّه مؤسس (أو لنقُل المؤسس الأكبر إذا شئنا الدقة) لحقل الدراسات مابعد الكولونيالية. الأهمّ من كلّ ذلك أنه كان يكتب بلغة الكولونياليين السابقين، ويخاطبُ العالم من قلب جامعة كولومبيا الأمريكية التي هي إحدى معاقل النخبوية الاكاديمية الأمريكية. يمكنُ القولّ إنّ سعيد كان عشرة رؤوس في جسد واحد. إنّ حياة سعيد وطفولته وشبابه ودراسته الاكاديمية، وعلى الشاكلة التي حكى عنها في كتاب مذكراته (خارج المكان) تكشف عن حياة مكافحة أراد لها صاحبها اختراق الآفاق وعدم الركون إلى نموذج واحد مسبق.

نشرت دار الآداب اللبنانية، قبل شهور قليلة، الترجمة الرابعة لكتاب الإستشراق Orientalism للراحل إدوارد سعيد، وهذا الكتاب هو بالتأكيد أيقونة سعيد التي نشرها أول مرة عام 1978 ثمّ أضاف لها فصلاً إضافياً (يسمّونه تذييلاً) في طبعات لاحقة. كان الاعلان عن الترجمة الجديدة - التي أنجزها الدكتور محمّد عصفور وقدّم لها تقديماً مطوّلاً الدكتور محمّد شاهين - مشوباً بنبرة احتفائية يُفهَمُ منها تحقيقُ انتصارٍ ساحق على المترجمين السابقين بالضربة القاضية، وواقع الأمر ينبئ بغير هذا. كان ممّا كتبه الدكتور شاهين في مقدّمته الاستقصائية للترجمة الجديدة:

« لابدّ في يومٍ من الايام أن يحظى الاستشراق بترجمة ميسّرة تختزل الكثير من الصعوبات التي يمكنُ أن يواجهها القارئ العربي... «. سيعرفُ القارئ من هذه النبرة التبشيرية أنّ الترجمة الجديدة هي الوافية والكافية بموجبات تيسير واشاعة مفاهيم (الاستشراق) بين القرّاء العرب كما أرادها سعيد. نعرفُ تماماً أنّ الدكتور كمال أبو ديب جعل من الترجمة الأولى للكتاب عام 1981 ميداناً تطبيقياً لبعض المناورات اللغوية البنيوية الثقيلة التي لايستسيغها القارئ ولاموجب لها أصلاً، ثم جاءت ترجمة الدكتور محمد عناني عام 2006 وكانت مقبولة إلى حد كبير وتقدّمُ خريطة لأفكار الكتاب. قدّم كثيرون قراءات مهمّة وجديرة بالنظر بشأن الترجمة الجديدة، وأشيرُ على وجه التخصيص إلى المراجعة المهمّة التي قدّمها الدكتور حمزة بن قبلان المزيني، أستاذ اللسانيات في جامعة الملك سعود بالرياض، وجاءت بعنوان (ترجمة جديدة لكتاب الاستشراق)، ويمكن للقارئ أن يراجعها في مواقع عديدة منها موقع العربية الذي نشرها بتأريخ 1 أكتوبر 2022. تزامن نشر الترجمة الجديدة لكتاب الاستشراق مع نشر سيرة سعيد التي كتبها تلميذه في كولومبيا تيموثي برينان بعنوان (أماكن العقل) الذي إرتأى عصفور أن يجعله (اماكن الفكر) . نُشِرت الترجمة الجديدة موقّعة بإمضاء الدكتور محمد عصفور أيضاً. كنتُ آملُ شخصياً، ولأسباب كثيرة تعزّزت لديّ بعد قراءتي المادة الثمينة التي كتبها الدكتور المزيني، أن أقرأ الترجمة الجديدة لكتاب الاستشراق بترجمة أنجزها الدكتور المزيني ولم يتسنّ له نشرها لأسباب (لوجستية) تتعلّق بحقوق الترجمة، وقد أفاض الرجل في شرح حيثيات هذا الأمر في موضوعه المشار إليه أعلاه.

سأتناولُ في فقرات تالية مساءلات تخصُّ شخصية سعيد مثلما تخصُّ ترجمات كتابه (الاستشراق)، وهي مساءلات غير تقنية لاتختصُّ بمعاينات أو تدقيقات ترجمية أو مفاهيمية عامة بقدر ماتتناولُ طبيعة الحراك الترجمي والفاعلية التي على أساسها نختار مانترجمُ من كتب دون غيرها، ومن أجل كلّ هذا إخترتُ عنوان (على هامش الاستشراق) لهذه المادة:

1. لماذا لم يعمل سعيد على رعاية مشروع ترجمة عربية لكتابه (الاستشراق) عندما كان حياً؟ نعرفُ من قراءتنا التقديم المسهب الذي قدّمه فوّاز طرابلسي لترجمة مذكّرات سعيد الموسومة (خارج المكان Out of Place) أنّ الترجمة نالت مباركة سعيد. لماذا لم يفعل سعيد الامر ذاته مع كتاب (الاستشراق) مع علمنا أنّ الطبعة الاولى منه كانت عام 1978 ؛ أي أنّ ربع قرن فصل بين نشر الاستشراق وبين وفاة سعيد؟ لو أنّ ترجمة عربية لكتاب الاستشراق نُشِرت بمباركة سعيد لبطُلت حمى التسابق في نشر ترجمات عربية جديدة له.

2. هل من المُجْدي -كسياسة ترجمية - أن نعيد ترجمة كتاب تُرجِم ثلاث مرات من قبلُ؟ يروّجُ الإعلان للترجمة الجديدة للكتاب أنّ هذه الترجمة تذلّلُ كثيراً من الصعوبات المفاهيمية المرتبطة بفهم إدوارد سعيد ومقاربته لموضوعة الاستشراق ودراسات مابعد الكولونيالية بعامة، وهنا أتساءلُ بصوتٍ عالٍ: هل تستحقُّ بعض التوضيحات المطلوبة من جانب المترجم (سواء جاءت كهامش أسفل المتن، أم جاءت كمسرد تعريفي إضافي للكتاب) إعادة ترجمته؟ ألم يكن من الأجدى ترجمة كتاب (جوزيف كونراد ورواية السيرة الذاتية) الذي أصدره الراحل عام 1966 وبقي غير مترجم حتى اليوم؟

3. الكثيرُ من المترجمين يستمدّ طاقة فعله والقوة الدافعة لعمله الترجمي من الطاقة المكنوزة في إسم من يترجمُ له. العديدُ من المترجمين يسعى لأن يقترن إسمه بترجمة أحد الكلاسيكيات المشهودة في الثقافة العالمية. أخشى أن يكون إدوارد سعيد إسماً جاذباً تدورُ في أفلاكه الجهود الترجمية التي تسعى لإسنمداد طاقتها التأثيرية من جاذبية إسمه، وهي جاذبية لايمكن إغفالها.

4. كل كاتب أصيل له بصمته، وبصمة إدوارد سعيد لاأظنُّ أنّ بوسع مترجم عربي مجاراتُها من غير الوقوع في (مطبات هوائية) مشتبكة، وربما كانت مذكراته المترجمة (خارج المكان) مصداقاً على ماأقول. إدوارد سعيد عقلٌ لايكفُّ عن التفكير في الجزئيات الصغيرة: أنظروا له وهو يتحدّثُ بضع ثوانٍ في فلم (الآخر)، سترون أنّ الكلمات تتدفق من فمه مثل شلالات نياغارا. حتى الغربيون المتمرّسون في تفاصيل اللغة الانكليزية كانوا يرون في سعيد موضوعاً يستحقُّ المزيد من البحث وليس من اليسير مجاراته أو تفنيد أطروحاته أو مضاهاة إنكليزيته الديناميكية المتدفقة.

5. قد يجد بعضنا أحياناً من خطأ صغير هنا أو هناك من ترجمة سابقة مسوّغاً لترجمة جديدة للعمل وبخاصة إذا كان العمل يُصنّفُ في فئة الكلاسيكيات الفكرية. هنا أقولُ أنّ تلك الهفوات الترجمية الصغرى، ومتى ماظلّت في نطاق المثالب الترجمة ولم تتجاوزها إلى الفضاء المفاهيمي، ليست حُجّة تتطلبُ إعادة ترجمة الكتاب. يمكنُ نشر موضوع يشيرُ إلى تلك (المثالب) الترجمية لكي يكون القارئ الشغوف على دراية بها. لن يكون في مستطاع الاكاديمي المتخصص سوى الرجوع إلى أصل العمل وقراءته بلغته الاصلية إذا ماشاء تحصيل المعرفة من منابعها الأصلية.

6. نعرفُ أنّ كتاب الاستشراق لإدوارد سعيد تناول نماذج من الكتابات الاستشراقية التي تدور في مدارات الثقافة الانكلوفونية والفرانكوفونية والجرمانية (الالمانية)؟ ماذا بشأن المدارس الاستشراقية الجديدة ومنها – مثلاً – المدرسة السويدية؟ أخشى أن يكون التركيز على الخطاب الاستشراقي بنسخة (إدوارد سعيد) دافعاً لتعضيد لغة اليسارية الجديدة (الراديكالية) التي تغضُّ الطرف عن المستشرقين المنصفين من ذوي الضمائر النزيهة في العالم. علينا أن لاننسى ابداً أنّ سعيداً تناسى الكثير من الاسماء المهمّة التي لم تكن أدواتٍ في تعضيد أطروحته الاستشراقية التي جوهرها « أسطرة الشرق والشرقي عبر تعميم مظاهر فردية او فئوية تبتكر صورة متخلفة عنه تسمحُ بترويج خطاب عن الشرق يهدف إلى الهيمنة عليه.... « .

7. ليس من السياسة الترجمية الناجحة أن نغضّ الطرف عن عشرات آلاف الكتب الجديدة في شتى الحقول المعرفية المهمّة، ثمّ نترجمُ كتاباً للمرة الرابعة حتى لو كان أحد كلاسيكيات المعرفة الممهورة بتوقيع الراحل الكبير إدوارد سعيد.

* * *

سأقولُ من واقع خبرة شخصية: إدوارد سعيد أكبر من كتاب (الاستشراق)، وليس في مستطاع أية ترجمة عربية أن تنقل لنا ثراء عقله وتخومه المعرفية، ومن أراد اللحاق بهذه التخوم فليس له سوى أن يقرأ سعيداً بلغته الانكليزية الدفّاقة. « لايوجد طريق ملكي إلى الهندسة «: هكذا إخبَرَنا إقليدس، وعلى الشاكلة ذاتها يمكننا القولُ ليس ثمة من طريق يسير إلى عقل سعيد وإلى عقل كلّ منتج أصيل لأعمال صارت كلاسيكيات معتمدة في عصرنا. الترجمة المتقنة قد تكون مفتاحاً لمن يريد الاستزادة ومعاينة الأصول الفكرية في مثاباتها العليا ؛ لكنها لن تكون خاتمة الطريق بل معالم إسترشادية على جانبيه.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

للحفاظ على «الهدنة».. تسريبات بإعلان وشيك عن موعد انسحاب القوات الأمريكية

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

قناديل: أما كفاكُمْ تقطيعاً بأوصال الوردي؟

التجنيس الأدبي والاكتفاء الذاتي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

رمل على الطريق

موسيقى الاحد: جولة موسيقية في فيينا

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

مقالات ذات صلة

التجنيس الأدبي والاكتفاء الذاتي
عام

التجنيس الأدبي والاكتفاء الذاتي

د. نادية هناويإن القول بثبات الحدود الأجناسية ووضوح مقاييسها هو قانون أدبي عام، نصّ عليه أرسطو وهو يصنف الأجناس ويميزها على وفق ما لها من ثوابت نوعية هي عبارة عن قوالب لفظية تختلف عن...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram