طالب عبد العزيز
لم تكن السنة الماضية حسنةً ولا سيئةً، هي مثل كل السنوات التي عشتها، تقليدية جداً، مرت مثل أي غيمة لم تمكث طويلاً، أنا لم أتأملها طويلاً أيضاً، أمّا الايام والليالي التي كانت استثنائية(مباهج وأحزان) فهي كذلك، عابرة وربما بليدة، لأنها لم تكن بمشيئتي، أنا أتسلمها حسب، اليدُ الكليّةُ تفعل ما يحلو لها، حتى ليبدو الكون كله خاضعاً لمتوالية الحَسِن والسيئ، هي مثل الدلاء التي تدار بإرادة مجهولة، تمتلئ وتفرغ بحسب مشيئة الماء والهواء، أنا لا أعيب إمتلاءها بالهواء.
الامرُ لا يستدعي الوقوف على الهواء أو الاحزان. كانت أمّي تقول: “إذا كثرتْ همومَكْ نامْ عنها” وهو قول بليغ والله. فعلام نُشركُ الاصدقاء بما يُصيبنا منها؟ مع يقيننا بأنَّ الحياة بحدِّ ذاتها فكرةٌ اشكاليّة، وهي مرهقة بكل تفاصيلها، ومحسومة بنهاية حقيرة جداً، لذا، فهي تستحق التجاهل، وإذا كان لا بدَّ منها فعلينا التعامل معها بوصفها حدثاً عابراً. فأنا مثلاً ومنذ سنواتٍ لم أعدْ أعبأٌ بالمنقلب الاجتماعي والسياسيّ والاقتصادي، لا لأنني لا أملك موقفاً من ذلك، أبداً، بل لأنَّ من يحركه أقوى منّي، فهو يملك أداة التغيير لا أنا.
ثم، ماذا يريد رجلُ وقفت سنواته على عتبة السبعين أكثر من هذا؟ شعْراً أسودَ مثلاً! وجهاً بلا تجاعيد، ظهراً مستقيماً، خطىً سريعةً، يداً واثقةً، نقوداً كثيرةً ... ؟ القاعدة تقول بأنَّ السعادات تتقاطع مع العمر، والاحلام تتضاءلُ مع تضاؤل المتبقي من العمرأيضاً. ثم من قال: إنني حزينٌ ؟ أبداً، أنا أكتبُ مادتي الاسبوعية للجريدة، وتتسربُ المباهجُ لي من بعض سطورها أحياناً، وربما كتبتُ قصيدةً فاستحسنها الاصدقاءُ، وهناك امرأة تتصلُ بي، كلما عنَّ لها ذلك، تُسمعني كلاماً جميلاً، وأختلي بنفسي، بين الليلة والليلة، أحاورها بكأس من نبيذٍ أحمرَ أحبّه، وأسهرُ مع الاصدقاء مساءَ كلِّ خميس، وربما سافرتُ الى مدينة أحبّها، وهناك مباهج أخرَ. لذا، سأقول ما قالته الروسية ماريا تسيفتايفا: إذا جاءني الغريبُ بالحصاة التي أحلم بها سأتزوجه.
يتجاهلنا الاهلُ والاقربون والاصدقاء، هم يعتقدون بلا قيمة لوجودنا، إذ لم نفعل ما يتوجب علينا، ولم نكُ على وفق ما تصوروا، وهناك من يرى في وجودنا معنى تافهاً، وبينهم من كان يتمنى لنا الموت. ذلك لأنَّ المسارات التي سلكناها مختلفة جداً، والغايات التي سعينا لتحقيقها أكبر من معارفهم. عند تقاطع شارعيّ سيربيس وفرانسيسكو برونا بمدريد، هناك لوحة تذكارية كتب عليها:” في مجمع هذه الدار التي كانت سجناً ملكياً، سُجِنَ ما بين عامي(1597-1602) ميغيل دي سرفانتس سافيدرا، وهنا ولد الفارس الذي ادهش العالم وأمتعه، النبيل العبقري دون كيخوت دي لامنشا».
كان العشبُ الفائضُ عن حاجة الحديقة يظللُ الجدران، تسلقه من ثلمةٍ في الهواء، تقول حبيبةُ البطل في الفيلم: Thank you for drink والحقَّ ما قالت، في الحانة التي كانت ملاذنا البارحة. في الشارع الذي لم يبق منه إلا يافطة المسجد وقفتُ، وعند متّجر المنتحرين الذي لم يمت أمامه أحدٌ أيضاً. عند السلّم الذي تعطل منذ اسبوع تأملتُ الصاعدين والنازلين، وليس بعيداً عن اللغة التي مات عنها قائلها قلتُ ما يستوجبُ. على السرير الذي لم تنم على وسادته امرأة بعدُ أنفقتُ الفحولةَ والكهولةً معاً، فلم أجدْ من تعقّبَ الضوءَ الى مكمنه، لذا، كان عليَّ أنْ أزيحَ الشجرةَ التي تحجبُ المقبرة عنّي، وأنْ اهتدي الى الباب حيثُ أومأ لي أحدهم، أو أصلَ الغابةَ التي لا توحشُ أحداً سواي.