حيدر المحسن
فاروق، شابّ إيزيديّ من أهل (دهوك) تعرّفت عليه نادلا في إحدى حانات بغداد، وانتقل إلى مدينته يعمل في المقاولات، وصرت أزوره كلّما استقرّ مقامي في دهوك. بناء وإعمار وكلّ السعادة، وصارت أحوال فاروق في العلالي،
كل هذا واللازمة الكلامية القديمة لم تفارقه. وهي: «قُلْ يا علي!». اتّصل فاروق بي في إحدى اللّيالي، وحمّلني أمانة أن أبلّغ الجميع تهانيه بالعيد: وكان يصيح في الهاتف: «ميلاد المسيح وميلاد مريم العذراء، وميلاد محمّد، وميلاد علي. قُلْ يا علي!». فاروق يُتأتئ في أثناء كلامه، وبين «اليا» و»علي»، يمرّ ما يقارب دهر من الزّمان.
زرتُ فاروق في مدينة دهوك، فاستقبلني وأحسن وفادتي، وكان رتّب جدولا للتّجوال في المدينة لم يتمكّن من الإيفاء به، لظروف لا علاقة لها بعزمه. البحيرة التي تعكس القمر والنّجوم على صفحتها عندما يجنّ اللّيل بلغناها بصعوبة بسبب العاصفة التّرابيّة التي صارت تقضقض البلدة، وكان فاروق يردّد لازمته ونحن في الطّريق. ثم بلغنا القمّة التي تطلّ على البحيرة، حيث تقع الحانة الموعودة، وكان الغبار والتّراب الذي يحمله الإعصار يمنعنا تماما عن الرّؤية، وكادت العجلة أن تنقلب بنا في طريق العودة، ونصير طعاما لأسماك البحيرة. في اليوم الثّاني قصدنا معبد «لالش»، وكانت الرّيح ساكنةً والحرّ معتدلا، لكنّ الحرس القائمين على المعبد منعونا من دخوله بسبب أعمال التّعمير، وتشاحن فاروق معهم، وصارت معركة، وتدخلتُ لنجدته. اتّصلوا بالضّابط المسؤول، وتصاعد الموقف بسرعة، وتخلّصنا من الإيقاف والسّجن بأعجوبة، وكان فاروق يردّد بين حين وحين: قل يا علي! في اليوم الثّالث اتّصل بي بالهاتف، وكان متحمّسا للغاية، كعادته، وقرأ لي جدولا سياحيّا طويلا، وفكّرتُ عندها في أن الاعتذار منه صار واجبا عليّ.
لم يشتهر بين الإيزيديّين فنّان ولا أديب رغم تاريخهم الطّويل في البلاد، وربما يعود السبب في ذلك إلى الدّيانة الإيزيديّة التي تحرّم على العامّة تعلّم القراءة والكتابة، من أجل أن يبقى كتابهم المقدّس خاصّةً برجال الدّين، فهم وحدهم ينشدونه ويُصدُون بأسراره ويفكّون رموزه. وعُرف الإيزيديّون في بلداتهم بصناعة النّبيذ، وخاصّة مدينة بعشيقة. قدّمتْ لنا هذه البلدة خِدمةً عظيمةً عندما زار بغداد فراس السّوّاح بمناسبة معرض الكتاب، وحلّ ضيفا عليّ في دارة “هوازن”. كانت المائدة التي ضمّتنا مع الصّديقَين النّحّات سماري والشّاعر محمّد النّصّار، بالإضافة إلى الشّاعر سامي أحمد مدير دار التّكوين، مؤثّثةً بأصناف النّبيذ، لكنّ الباحث والمفكّر طلب عرَقا مقطّرا من عصير تمر العراق. المشكلة أننا لا نملك مصنعا أو معملا يدور ويُنتج في طول البلاد ـ عدا كردستان ـ وعرضها، وكلّ ما لدينا في السّوق مستورد من بلدان الجوار أو من بلدان بعيدة. حتى الفجل والكرّاث والبصل يأتينا في حاوياتٍ مبرّدةٍ، فكيف بالنّبيذ المعتّق من ثمار سيّدة الشّجر؟ دقائق، وأنقذ الموقف مدير أعمال حانة “هوازن”، السيّد “حكمت”، جاءنا بعَرَقٍ هو خاصّته، ومن عمل أهله في ناحية بعشيقة، دارتُهُ.
لو سألني أحد هل تعتقد بما يؤمن به الشّعب الإيزيدي، لكان جوابي إلى الإيجاب أقرب بكثير من النّفي، فالسّيّد الشّيطان مذكور في الكتب المقدّسة وفي كتب الأدب، وهؤلاء قوم يخشون ما يمكن أن يصدر عنه من أفعال، إذا أغضبه أحد. تخاصم صديقان لي وصار بينهم نِفار رغم العِشرةَ الطّويلة، وسألني صديق ثالث هل بإمكاننا التّوسّط من أجل إعادة اللُّحمةَ التي فُقدت، وكان جوابي أن الاثنين قصدهما لسوء الحظّ السّيّد الشّيطان، وزرع بينهما حقل شوك وبغضاء واسع، وليس بمقدور أحد حرقَ المسافة الشّاسعة التي صارت تفصل بين الاثنين إلّا بمشيئة (السّيّد).
هاجر صديقي فاروق إلى ألمانيا وانقطعت عنّي أخباره. هل ما زال يردّد هناك لازمته، وكيف تكون حين ينقلها إلى اللّغة الألمانيّة؟ أتمنّى أن لا يفعل ذلك، ويظلّ يتأتِئُها بالعربيّة. قولوا معي: يا علي!