اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > الجواهريّ والتنازع الجيليّ

الجواهريّ والتنازع الجيليّ

نشر في: 8 يناير, 2023: 12:16 ص

د. نادية هناوي

لا تعني مفردة المثقف ما نستعمله اليوم أي الثقافة التي تعني الصقل والتدريب والزرع والتنمية والتعليم والوعي فتطلق من ثم على كل متعلم وقارئ،

بل المفردة تعني ــ بحسب ادوارد سعيد ــ من كان له دور في الحياة العامة ويعكر صفو الحالة الراهنة، فتناط به مهام(تحطيم قوالب الأنماط الثابتة والتعميمات الاختزالية التي تفرض قيودا شديدة على الفكر الإنساني وعلى التواصل بين البشر..

المثقف شخصية يصعب التكهن بما سوف تقوم به في الحياة العامة ويستحيل تلخيصها في شعار محدد أو في اتجاه حزبي معتم أو مذهب فكري جامد وثابت) وهذا التوصيف ينطبق على الشاعر محمد مهدي الجواهري كمثقف تلبسته روح الانشقاق والتمرد على الوضع السائد، لا كشاعر كبير حسب، بل ككاتب صحافي أيضا، فكرّس مقالاته المنشورة في الصحف اليومية للدفاع عن حقوق الناس والاحتجاج على الأوضاع المتردية وذلك منذ أن بدء العمل الصحفي عام 1930 وفيه أصدر صحيفة الفرات ثم الرأي العام واستمر إلى العام 1960 عبر صحف صدى الدستور والأوقات البغدادية ومن بعدها الثبات ثم جريدة الجهاد.

فكان المثقف الطليعي الذي يحمّل شعره ثورية ويعزز بها مواقفه الوطنية لكن هذا ما كان ليرضي شاعرا من شعراء البيان الشعري هو فوزي كريم الذي تأثر بأفكار «جوليان بندا» عن خيانة المثقف فوجد في الجواهري مثالا للشاعر الذي تقمعه ثلاث سلطات هي: سلطة الشارع وسلطة الدولة وسلطة الموروث. ولم يعرض فوزي كريم رأيه في الجواهري وشعره مباشرة، بل بدأ بتقديم رؤية لحال المثقف الذي تصور أن في العراق طبقة عاملة لا وجود لها هي «الجماهير» وعبأها بالحقد الطبقي وكانت الانقلابات التي بسببها تلاشت الطبقة الوسطى وانقادت الحياة مستسلمة إلى الهاوية.

وأن ما سماه (كورس الكراهية) انسحب من الأحزاب إلى الأعراق والديانات والنتيجة أن المثقف أفلس وصارت المصالح على رأس المطالب وشاعت فكرة الدولة القوية لا العادلة. وصارت الدعوة إلى تفوق الجيش ومثّل بمطلع بيت أبي تمام(السيف أصدق أنباء من الكتب ومطلع بيت للجواهري (ما كان عندك كان قولا فاصلا/ يسبي العقول فأي قول عندنا)

وإذ بدا الشاعر فوزي متأثرا كثيرا ببندا وأطروحته في المثقف الخائن، فإنه تناسى ما طرحه ادوارد سعيد حول علاقة المثقف بالسلطة ووصفه المثقفين بأن(لهم أوضاعا بها نعرفهم فهم ليسوا ذوي مناصب ومكاتب يريدون حمايتها ولم يكسبوا أرضا يريدون دعمها وحراستها بل أوضاعهم تثير القلق وهم أقرب إلى السخرية لأنهم دائمو الاحتجاج ليس لهم أصدقاء إذن هم في عزلة لكنها خير من الصحبة التي تعني قبول الأوضاع الراهنة على ما هي عليه).

وهنا نتساءل ألم يكن الجواهري كذلك وهو الذي كان من مؤسسي نقابة الصحفيين وانتخب نقيبا عام 1959 تقديرا لدوره الوطني؟ وهل قرأ الشاعر فوزي مقالات الجواهري الصادحة والناقمة مثل مقالة(اسمعي يا وزارة المعارف) و(هل يخجلون) ومما قال فيها(لما كنت بحكم نشأتي ميالا إلى إنصاف الضعفاء والمظلومين..وودت بان لا يعمل العامل في اليوم الواحد أكثر من 8 ساعات في بعض الأعمال و9 على الأكثر في الأعمال الأخرى ففسروا هذه الميول لي ولإخواني بأنها ميول شيوعية ولا شيوعية هناك)؟ ثم ما تفسير فوزي لقول الجواهري(عشت حياة عاصفة اختلطت فيها عوالم بعوالم.. كنت اللوحة المتشابكة الصور والالوان والمعبرة اصدق تعبير عن تفجر المجتمع العراقي بل تعريته وتعرية المجتمعات العربية كلها وقبل ذلك فانني لأعري فيها نفسي بنفسي)؟

عموماً، لا فاعلية للمثقف من دون أن تكون ثقافته متجسدة على أرض الواقع بثورية وطليعية بيد أن صراع الأجيال هو الذي دفع فوزي كريم إلى اتخاذ موقف التنازع مع الجواهري فافرد في كتابه(تهافت الستينيين) فصلا نفى فيه عن الجواهري صورته كشاعر طليعي وأثبت بدلها صورة أخرى ذاتية فيها:

ـ ما بحث الشاعر الجواهري عن التجديد في القصيدة العمودية إلا لأن جيل السياب والريادة الشعرية ظهر في الأربعينيات حيث بلغ الجواهري أعلى مراحل نضجه وتأثيره في الحياة اليومية للشارع العراقي والمعترك السياسي وسط الأحزاب وداخل مؤسسات الدولة.

ـ شاعرية الجواهري في الستينيات والسبعينيات حققت حجما أوسع من حجم الحياة وفي الآن نفسه تصلب (عمود حركة التجديد الريادية) وصار شاعر العرب الأكثر.

ـ أن شعر الجواهري هو شعر(الحمرة القانية التي هي نتاج احتدام وتعارضات روحية ميزت الشخصية العراقية عن سواها ولقد عجنها الجواهري بشخصه وبشعره بصورة فريدة واطلاقته أنا العراق ليست مجازا لغويا مجردا)

ـ أن الجواهري ما تميز على اقرأنه ومنهم علي الشرقي إلا بالشخصية القوية واللغة المتعالية والافتنان بالصراع المصون في داخله ورأى فوزي كريم أن هذه هي نقطة ضعف الجواهري وبسببها (عانى منها طيلة حياته الشعرية مع أنه كان يفضل أن يكون ضد الجمهور والدين إلا إنه كان دائم الاستجابة للجمهور الذي كان يتيح له مهربا حتى لو مؤقتا من احترابه الداخلي)

ـ لم يكن الجواهري ليأبه للجمهور الذي أعلن في مطلع نضجه (كفره بكل الناس مجتمعا) وخاطبه(يا نبتة البلوى) اما لماذا أحب الجمهور فيجيب فوزي بأنها جاذبية الاستجابة التي كان الجواهري (أضعف من أن يقمعها في داخله..قوى اليسار لم تغفل يوما دور وساطتها بين الجواهري والجمهور.. ولكنه كان يستمرئ الدور الذي يقوم به هذا الوسيط السياسي ذي الطبيعة الرمزية ممثلا طليعيا للجماهير. كان يستمرئه لا لأنه الوسيط فقط بل لأنه القناع الرمزي الذي يحول بينه وبين الجمهور أيضا)

ـ الجواهري ثائر بالطبيعة تتملكه الفردية لكن سطوة الموقف العقائدي عانى منها الجواهري كما عانى السياب فانسحق الأخير تحت عجلتها لكن الجواهري دفعها جانبا.

ـ أن الجواهري خضع بالإضافة إلى سطوة العقائد إلى سلطتين تجاذبتاه هما سلطة الدولة حين يكون مع سلطة الشارع وسلطة الدولة حين تسترضيه ويستجيب لها فيكون موضع طعن واتهام سلطة الشارع. ولكن حين رحل عن العراق تلاشى دور هذه السلطات تدريجيا إلى الأبد.

ـ أن (نزعة الاتهام بالخيانة ونزعة الارتياب وتصيد الأعداء ونزعة الإلغاء والتوعد بالتصفية) تسربت من شعر الجواهري إلى الشعر العراقي(هذه الرؤيا التي تستعين بالدم لتصطبغ به إنما تنتفع من ارث شيعي أيضا) فكان بها أشهر من شكسبير في ماكبث الذي حوّل البحر الأزرق إلى احمر.

ـ أن الجواهري هو المتأمل في مرآة ذاته تهمه موضوعات الموت ومشاعر المنفى والذات واستراحة براغ والربيع والطبيعة والضفادع(الجواهري بعد مغترب براغ يفلت من سلطة الدولة وسلطة الشارع ويحقق إفلاتا رائعا من سلطة الموروث) ويذكر انه قرأ قصيدة قالها الجواهري في حفل استقبال بشارة الخوري وخص بها ولي العهد عبد الإله وكان حاضرا وفيها قال:

(يا ابن الذين تنزلت ببيوتهم/ سور الكتاب فرتلت ترتيلا) وان الجواهري أعجب بقراءته وقال له: بأنه كان يغنيها في وحدته في براغ) وكأن لا قيم سعى الجواهري إلى تأكيدها في شعره، بل هو مبهور بنفسه مأخوذ بها.

والسؤال الذي ينبغي طرحه هنا لماذا تحامل فوزي كريم على الجواهري ووصفه بهذه الأوصاف التي تنتقص شعره وتضعه في برج عاجي؟ أهو حقا صراع الأجيال أم هو الاستبداد الذي هو داء الشرق ودواؤه أم هي عقدة الخواجة التي عنها تقول عائشة عبد الرحمن(نحن الكتّاب والمفكرين ما نكاد نأخذ مكاننا حيث يجب أن نكون في الموقع الفكري للمعركة حتى تأخذ صيحات من هنا وهناك توصينا بالتحفظ والحذر فيما نكتب أو نقول) وأين تقولات فوزي من وصف ناقد جايله هو عبد الجبار عباس يصف الجواهري في نضجه وكهولته بما في قصيدته من(طعم الكهولة عالقا بفمه ونرى نفسه عارية في جذاذات طرس يتجاذبها الرضى والغضب تتعاقب عليها سكينة القناعة بعد مرارة الندم) وكيف يكون الجواهري بهذه الفردية وهو الذي قال الشعر لنصف قرن وليس فيه إلا ما يجمع بين الشعر السياسي وشعر الحب والثورة والقلق ورثاء الشهداء؟

أن التجييل العقدي الذي جعل من شعراء الستينيات جيلا هو الذي عمّق الفصام بين جيل الرواد وجيل ما بعد الرواد. وما نظرة الشاعر السلبية المليئة بالانتقام والاتهام سوى تعبير عن هذا الفصام بين الشعر كاعتمال نفسي وبين الكتابة عن الشعر كتفكير نقدي. وهنا أتذكر قصة كلب الصيد الذي لاحق أرنبا فعجز عنه ولم يستطع إدراكه فسأل الكلب الأرنب: كيف تسبقني وأنا أقوى منك وأسرع؟ فأجابه الأرنب: لأني أعدو لحسابي وتعدو لحساب صاحبك.. هذا الأرنب هو المثقف.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

للحفاظ على «الهدنة».. تسريبات بإعلان وشيك عن موعد انسحاب القوات الأمريكية

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

قناديل: أما كفاكُمْ تقطيعاً بأوصال الوردي؟

التجنيس الأدبي والاكتفاء الذاتي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

رمل على الطريق

موسيقى الاحد: جولة موسيقية في فيينا

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

مقالات ذات صلة

التجنيس الأدبي والاكتفاء الذاتي
عام

التجنيس الأدبي والاكتفاء الذاتي

د. نادية هناويإن القول بثبات الحدود الأجناسية ووضوح مقاييسها هو قانون أدبي عام، نصّ عليه أرسطو وهو يصنف الأجناس ويميزها على وفق ما لها من ثوابت نوعية هي عبارة عن قوالب لفظية تختلف عن...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram