لطفية الدليمي
القراءة فعلٌ بشري قصدي ينطوي على تَوْق وطهرانية: التوقُ إلى إستكشاف عوالم جديدة لم نختبرها على المستوى العياني لأنْ لاسبيل مادياً لنا إليها ؛ لذا يكون البديل المعقول هو الاستكشاف الرمزي لها عبر فعل القراءة. أما طهرانية القراءة فتنبعُ من أنك لاتسعى من ورائها إلى نيل مكافأة فورية. القراءة تكافؤنا بالتأكيد ؛ لكنّ مكافآتها تتجلى في لذّات عقلية يستعصي فهمها وتقدير أهميتها على كلّ من لم يختبر سحر القراءة في حياته.
القراءة واحدةٌ من الأفعال التي يتمايزُ بها العقل الفلسفي المستكشف عن العقل الباحث عن اللذة اللحظية العابرة ؛ وتأسيساً على هذه المواضعة تكون القراءة - والكتاب هو القرين الشرطي لها سواء أكان ورقياً أم ألكترونياً - فعل ارتقاء حضاري يبتعد فيه المرء عن الانغماس في نطاق الحاجات البيولوجية البدائية نحو اختراق آفاق رمزية هي بعضُ علامات التثقف والرفعة الحضارية.
كلُّ من استطاب القراءة وعدّها شرطاً لازماً لمعيشه اليومي يدرك تماماً الحقيقتيْن التاليتيْن:
1. القراءة استكشاف لانهائي لعوالم متوازية: يعيش الكائن الحي حياته خاضعاً لسلسلة من المحدوديات. هذا الخضوع أحد قوانين العيش التي لانستطيع التفلّت منها. واحدةٌ من أهمّ وظائف القراءة مدّ نطاقات قدراتنا العقلية والحسية عبر تمثّل خبرات أناسٍ آخرين ؛ وبهذا الفهم تكون القراءة بمثابة عيش حيوات إضافية.
2. القراءة ترويض للكائن الضوضائي الذي يكمن فيك: العالمُ مكان ينتجُ الضوضاء ويعيش فيها. ثمّة من يستطيب هذه الضوضاء ويجعلها إطاراً لازماً لحياته ؛ لكن في الوقت ذاته هناك من يُعلي قيمة إخماد هذه الضوضاء الدنيوية فيه، وأن يتيح لعقله حرية التفكّر الهادئ في أفكار شتى. يجب أن تبتعد عن العالم حتى يتسنى لك مراقبته ومحاكمته وعدم الوقوع أسيراً للمعتقدات الجمعية الحاكمة له. القراءة هي التي تمنحك هذه الرفاهية النفسية والأخلاقية.
* * *
القراءة فعلٌ مقرون شرطياً بالكتاب، وليس الشكل الفيزيائي للكتاب بذي أهمية. المسألة مدار مزاج شخصي في الميل لشكل محدّد وتفضيله على شكل آخر ؛ لكنّ الافكار المسطورة في كتاب مكتوب على رقعة بردي لن تختلف عن أفكار يضمّها كتاب ألكتروني. الاهمية تنبع من أفكار الكاتب لامِنْ شكل الكتاب. الكتاب هو الكتاب سواءٌ جاء في شكل أوراق مرزومة معاً أو بهيئة مصنفات ألكترونية كما هو شائع اليوم. ثمة في الكتاب جوهر يستعصي على التقادم والفناء ؛ وعليه فالقراءة في بعض جوانبها مسعى يمثلُ بعضَ النزوع الطبيعي (الكلكامشي) للخلود لدى البشر، ولايهمُّ إن كان هذا المسعى مقترناً بالوعي الكامل به. لايفارق ذهني صورةٌ متخيلةٌ أراها كثيراً: كم كانت حيرة كلكامش ستبدو عظيمة لو عرف بوجود مخلوقات في الكون إسمُها (الكتب). أظنه كان سيبطلُ رحلة بحثه الملحمي عن الخلود. مالَهُ والخلود إذا كان سيخلدُ بين دفتي كتاب؟ الخلود هو خلود الأفكار في نهاية المطاف. ليس مايخلدُ في هذا العالم سوى شيئين إثنين: الكتب (لتكن الافكار، لافرق !)، والافعال النبيلة. كل ماسوى ذلك قبضُ ريحٍ مآله إلى عدم مستديم.
* * *
كلّ لغة نتعلّمها هي عينٌ إضافية نرى بها العالم. نرى تشكّلات وتضاريس ماكان بوسعنا رؤيتها لو اكتفينا بلغتنا الام. اللغة الانكليزية هي السائدة عالمياً في حقول الأدب والعلم والاقتصاد ؛ لذا سيكون من الطبيعي أن تكون مدار تعلّم وفهم وتمكّن كلّ قارئ جاد مهجوس بالتطلّع إلى المثابات الفكرية العالية. لاضير من قراءة الترجمات ؛ لكنّي أؤكّدُ لك أنّ قراءة الكتب بلغاتها الاصلية تبقى تجربة متفرّدة.
* * *
تاق بورخس، أحد أعظم الرائين في عالمنا، لأن تكون الجنة مكتبة. هل ثمة من يجرؤ على مناكفة بورخس في توقه هذا؟