TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > الحَرب المُستقبلية البَاردة بينَ الغَرب و المُجتمعات الشرق أوسطية

الحَرب المُستقبلية البَاردة بينَ الغَرب و المُجتمعات الشرق أوسطية

نشر في: 8 يناير, 2023: 12:19 ص

د.حيدر الجوراني

إِمتازت بُطولة كَأس العالم الأَخيرة في قَطَر نهاية السنة الماضية عن سابِقاتها. فالجَدل الأُممي عِبرالثقافي إِتَضَحت فَضاءآتُه في رَمزِيَتين: الأولى "إشارة الألوان لِمجتمع الميم» والثانية "عَباءة ميسي العَربية».

و من ِخلال السِياق لأحداث البُطولة، يَبدو أَن حَمل إشارة الألوان المتعددة مُنِعَ لِعدَم إتساقهِ مَع الفضاء الإجتماعي والنَسق الثقافي العربي الإسلامي بينما نِهايةُ التَتويج كانت بوضع العَباءة العَربية التَقليدية على كَتِفَي "ميسي" فُسِرَت عَلى أنها إنتصارٌ لِصراع قِيَمي خَفي، الأمر الذي جَعل بَعضُ الآراء الغربية تَمتعض لدرجة أنها آخذت على "ميسي" أنه مقصرا لِعدم رفض وضع الأمير عباءة على كَتفهِ؟ وإن رفضَ ميسي ذلك ما الذي سيحدث؟

إنتهت البُطولة تاركةً الأبوابَ مُشَرعَة لِسؤالٍأهم: هل تَخوض مُجتمعات الشَرق الأوسط حرباً بادرةً مع الغَرب فيما يتعلق بِحرية التَعبير وحُقوق الأنسان؟ سِيما وأن حُرية التَعبير هي الحَقُ الأساس لحُقوق أي إنسانٍ وأنها أُم الحُريات كما تُسمى.

تُحتمُ الإجابةَ على هذا السؤال بسؤالٍ آخر:

هل إستُعمِلت حُقوق الإنِسان أصلاً كَسِلاحٍ باردٍ في تأريخ الحُروب في العَالم مِن قبل؟

يَتَمحور الجوابُ في سَردية الصِراع التأريخي في القَرن التاسع عشر، إذ إستُعمِلت قَضايا حُقوق الإنسان كجزءاً من الصِراع بين الشَرق والغَرب إبانَ الحَرب الباردة، ويَتضحُ ذلكَ في كَونِ حُقوق الإنسان كانَت عاملاً أساسياً للإستثناء الأمريكي في الحفاظ على رأسمالية السوق الحُرة التي يَتمَحور حَولها الغَرب والتي هَدفت إلى تَحجِيم عَواقبَ تَوسع "الإتحاد السوفيتي" داخلَ أوروبا والعالم الثالث آنذاك. هذه الستراتيجية أتت من خلال لعب الأسس الفردانية لليبرالية دورا ضمن حيثيات تأسيس الإقرار العالمي لحقوق الإنسان والتي تمثل ضدا نوعيا لفمهوم القومية أو الأممية ما حدى بالصراع إلى أن يتطور بصيغة حربا بادرة.

تلك الجدلية تحمل طرفي نقيض وهماالنزعة الاجتماعية المتمثلة بالعدالة (Justice) " التمثل الشيوعي" والنزعة الليبرالية المتمثلة بالحرية (Liberty)"التمثل الغربي الرأسمالي".حتى أنَ فِرِدريك أَنجلز (Friedrich Engels) إنتقدَ النَزعة الليبرالية وذهبَ بإتجاه أنَ النظريات الأخلاقية للحقوق هي نِتاج الطَبقة السائدة في المجتمع تحت أي مرحلة من النمو الاقتصادي له.

ولم تخلو لوائح الإقرار العالمي لِحقوق الإنسان إلى حد ما مِن الأخذ بِنظر الإعِتبار لتِلك الإنتقادات حتى تَضمنت تلك اللوائحَ بعض الأحكام الماركسية لِحق تَحديد يومُ العَمل للفرد، و الإنتماء للجمعيات، والرعاية الصحية للأفراد على سبيل المثال.

وبِالرَغم من ذلك، بَقيت حُقوق الإنسان تُمثل الأرضَ الحَرام لِحرب القِوى العُظمى البَاردة، وهذا ما يُؤكِدهُ نَعَوم جُومسكي (Noam Chomsky) نفسهُ بتَوصيف مُبادرة حُقوق الإنسان كَحيلة يتُم التَلاعب بِها من قِبل الدِعائيين لِكًسب التأيد الجماهيري في حال تطلب الأمر تدخلاً مضاداً لثورةٍ ما. وقد أخذت حُقوق الإنسان دَيمُومَتها ضِمنَ السِياقات إِبانَ الحَرب الباردة كَبديل لِسقوط النَزعة المثالية وتَحولاتها، ما جَعلها لاعبة دوراً أساسياً في تحقيق غايات جيوسياسية تعكس إهتمامات القوى العظمى في الصِراعات الفكرية، حتى تَسبب ذلك بِخلافات بين أوساط صُناع القرار الأمريكي وأروقةِ الأمم المتحدة الأمرَ الذي أدى إلى بزوغ فكرة المُنظمات غَيرالحُكومية لتخفيف حدة تلك الخِلافات.

حتى بعد نهاية الحرب الباردة التي أَفضت إلى إلتزام عالمي بالإقرار الأممي لحقوق الإنسان إلا أن حقوق الإنسان كَمفهوم هي الأقوى في سِياقات الخِطاب السياسي والثوري، لأنه الخطاب الأوحد للجماعات المسحوقة والمظلومة.

وعلى ما يبدو أنَ تلك النهاية إنتقلت أوزارُها بعدَ أُفول "الإتحاد السوفيتي" إلى منطقة الشرق الأوسط، حيث يتأرجح الصراع بينَ التَطرف العَقائدي والفكري داخل المجتمعات الشرق الاوسطية مع تحولات إجتماعية عنيفة وتداعيات ما يسمى "بالربيع العربي".فالقوة الدينامية المُحركة لهِذا الصراع تكمن بطرح السؤال الذي لا يُرادُ لهُ الخَوضَ فيهِوفي جدليتهِ وهوَ هل حُقوق الإنسان مَفهوم عَولَمي (Universal) أم أنهُ ذا نِسبيةٍ ثقافية Cultural relativeness؟

إجابةُ سؤالٍ كَهذا تَعني صُعوبة في عَملية تعزيز حقوق الإنسان ذاتِها، قد لا تَتضح هذه العَقبة في الديمقراطيات المُتقدمة لسَببين، الأول هي أنها قَطعت شَوطاً كبيراً في إستدخال هذا المَفهوم ضِمنَ بُناها المَعرفية عِبر الجيلية «ذات النزعة الفرادنية".والثاني هوَ أنها تُؤمِن – أي تلك الديمقراطيات أو الأمم الغربية- بِأنَ حُقوق الإنسان هي عَولمية من حَيث التَنظير والتَطبيق للإقرار العالمي لحُقوق الإنسان الذي يُعد من أهم مُتبَنياتِها. وعلى الرغمِ من أنَ الدراسات العِلمية الحَديثة تؤكد الصِدقية الجَدليةلذلكَالسؤال إلا أنَ صِناعة الرأي والسياسة الغربيتين لا يُوليا إهتماماً لتلكَ الجَدلية لأنها سَتُثير الخِلاف والِنزاع بين صُناع القرار والرأي العام.

ما يعززضرورة إيجاد إجابة تطبيقية لهذا السؤال هو الحاجة إلى تقليل الفجوة لحَتمية نوعين من التَطرف، التَطرف المُؤسَس على أن مفهوم حقوق الإنسان نسبي ثقافي و الذي يعتمد في تطبيقات حقوق الإنسان على إنَ المجتمع هو مَصدر الإلهام القِيمي للحقوق في التَعبير لا الفرد. أما التطرف الثاني فهو التطرف الذ يؤمن بإنَ مَفهوم حقوق الإنسان هوعَولميوالذي لا يَركنُ إلى ثقافة المُجتمع كَمصدر إلهام قِيمي ويَضربُهاعَرض الحائطِمستلهماً الحقوق وحُرية الفرد في التعبير كقيمة جامعة عولمية. يجدُ هذان التطرفان فَضاءاتُهما في المجتمعات الشرق أوسطية بنمو مُطَرِد نتيجة التَحولات الإجتماعية المُتسارعة مع وفرة المَفاهيم المُستدخلة دونَ مُحاولات إعادة لإنتاجها ضِمن الأَنساق المُجتمعية وكذلك بزوغ الأقليات والطبقات المُستضعفة المحرومة سياسيا وإجتماعيا وإقتصاديا وحتى إنسانيا.

بمقاربة سريعة، يَصف التوجه ذات التطرف العَولمي لحقوق الإنسان المُجتمعات الشرق أوسطية بإنها تَنتهك حُقوق المَرأة ولا تَمنحها مكانتها كَكيان إنساني مُتفرد في الحقوق وحُرية التَعبير وهو إلى حدٍ ما صحيح، بينما يرى التَوجه المُتطرف المُضاد أنَ المَنظومة القيمية الجَمعية مُضافا لها مُحددات تتعلق بالدِين و الأَنساق الثقافية لها بأنهُ إنتهاكٌلُحرية مُعتقدات تلكَ المجمتعات.

في إسرائيل التي هيَ عينُ القِلادة للمُعسكر العَولمي الغربي مثلاً، تَفتقر نِساءُ طائفة الحَرِيديم وتتعرض إلى ما تتعرض له النساء في أفغانستان، وبِتنَ يُعرفن بطالبان إسرائيل أو داعشياتها. إذ تُحتم تعاليم الطائفة الحَريدية على المرأةاليهودية أن تُغطي جَسدها بالكامل، حتى الوجه من خلال بُرقعٍ أسود، وأنَ الرجل لا يجلس بجوارها في الباص دون عازل أو حجاب، وأنها – أي المرأةُ- هي موطنٍ للجِنس والنَماء كما هي الفكرة التقليدية المعهودة في سائر الأديان الرسالية.

بينما لا تَحظى ظاهرة نساءُ طائفة الحَريديم و التي تمثل 10 % من المُجتمع الإسرائيلي في سِياق جَدلية النِسبية الثَقافية أوعَولمية حُقوق الإنسان من صانع القرار الغربي و دعاة إرساء حقوق الإنسان بذات المُستوى الذي تؤاخذ عليه مجتمعات شرق أوسطية آخرى، فهل إسرائيل هي المُستثنى ( بِإلا)؟

إذن هل نحن أَزاء حرب حقوق الإنسان الباردة كشرق أوسطيين ودول غربية لها مصالح لا تنتهي في المنطقة؟ وإن كان الأمر كذلك كيفَ سَتضع هذه الحرب أوزارها مستقبلاً؟ومن يضع تَرسيماًلِحدود حريات التَعبير؟ قبلَ الخَوض في محنة فض الصراع بينَ النسِبية الثقافية لحُقوق الإنسان وعَولميتها، يجبُ الوقوف على فخٍ إصطلاحيٍ لغوي ضمنَ لوائحَ الإقرار العالمي وأدبياتِ حقوق الإنسان (Self-determination). والذي يحملُ حُمُولَتيَن إذا ما تُرجمَ إلى اللغة العربية وهما حقُ تقرير المَصير و حقُ تحديد الذات، وكلا التعبيرين لهما تناقُضاتهما في أعراف تطبيقات القانون الدولي، إذ تجدُ الدولةَ نفَسها أمام عائقين، الأول هو سلوكها العام مع مواطنيها داخل الدولة كصاحبة إقرارعالمي في حال مَنحت الفرد تحديد ذاته كحقٍ فرديٍ إنساني " عولمي" داخل الدولة، وعائقاً آخراً لها أيضاًكوعاء مُجتمعي لهُ حق تقرير المصير كجماعة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ضد منافس شرس.. متى تفوز المراة بحقوقها؟

ما حقيقة استقالة وزير النفط؟

البرلمان يعتزم اطلاق دورات تثقيفية "إلزامية" للمقبلين على الزواج للحد من العنف والطلاق

(المدى) تنشر قرارات جلسة مجلس الوزراء

السوداني يؤكد التزام العراق بخطط أوبك

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

كيف يمكننا الاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟

العمودالثامن: متى يعتذر العراقيون لنور زهير؟

العمودالثامن: حين يقول لنا نور زهير "خلوها بيناتنه"!!

العمودالثامن: لماذا يكرهون السعادة؟

العمودالثامن: أين اختفوا؟

العمودالثامن: أين اختفوا؟

 علي حسين ظل السادة خضير الخزاعي وأسامة النجيفي وصالح المطلك وإبراهيم الجعفري وفؤاد معصوم وعباس البياتي وعتاب الدوري وحسن السنيد وغيرهم يهلّون علينا كلَّ يوم قبل الغداء وبعد العشاء من خلال الصحف والفضائيات،...
علي حسين

كلاكيت: البحر الأحمر في فينيسيا

 علاء المفرجي بعد مشاركتها في الدورة السابعة والسبعين من مهرجان كان السينمائي لعام 2024م، من خلال أربعة أفلام سينمائية وعدد من المبادرات والفعاليات. وتتضمّنت قائمة الأفلام التي حصلت على دعم المؤسسة: "نورة" للمخرج...
علاء المفرجي

تدهور الرعاية الصحية الراهن لا تُعالجُه الوعود المعسولة!

د. كاظم المقدادي أنتجت المنظومة السلطوية القائمة على المحاصصة الطائفية والإثنية، وتقاسم النفوذ والمليارات، والمناصب والإمتيازات، ظواهر بغيضة، كالتسلط والهيمنة على مقدرات البلد، بدأتها بإفراغ الوزارات ومؤسسات الدولة الأخرى من الموظفين الكفوئين إدارياً وذوي...
د. كاظم المقدادي

عن المرجعية الدينية

حيدر نزار السيد سلمان كتب ويكتب الكثيرون عن خليفة المرجع الديني اية الله العظمى السيد علي السيستاني بالإضافة إلى جهود بعض مراكز البحوث المهتمة بالشأن العراقي، وهذا دلالة على أهمية المرجعية الدينية من النواحي...
حيدر نزار السيد سلمان
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram