ستار كاووش
مشهد عابر في واجهة أحد المطاعم الصغيرة، أعادني الى تلك الحكاية القديمة، والتي بدتْ كإنها إندثرت في طيات النسيان، لكن شكل الدجاج الذي يدور في شوّاية هذا المطعم، هو ما ذكرني بها. أسياخ الدجاج تدور برتابة أمامي، وحكاية ذلك الرجل تدور في ذاكرتي، الرجل البسيط الذي تعلمتُ منه درساً حول الهالة المزيفة التي نتوهمها حول الكثير من الأشياء التي نكتشف فيما بعد بأنها ساذجة وعادية جداً.
وها أنا أعودُ بذاكرتي الى إنتقالي من جنوب هولندا الى بيت يحاذي إحدى غابات مدينة أرنهم الهولندية، قرب حدود ألمانيا، بإنتظار البَتِّ بالإقامة التي سأحصل عليها. كان البيتُ واسعاً ومتشعب الغرف، كإنه مدرسة مهجورة أحاطتها الأشجار والنباتات من كل جانب. عند وصولي لمحتُ بضعة أشخاص من جنسيات مختلفة، كانوا قد سبقوني بأوقات متفاوتة للعيش في هذا البيت. وهناك رأيت الرجل الذي أريد أن أحدثكم عنه، نعم ذلك الرجل الأسمر الذي إنشغل أياماً طويلة بشواء الدجاج، لا يمر يوم دون أن أراه وهو يهيء عدته خارج غرفته الصغيرة ويضرم النار التي يضع عليها دجاجته، ويُقَلِّبُها على اللهب. وحين ينتهي من الشواء يُهيئ طاولته القديمة التي يستقر فوقها طبق كبير يضع فيه الدجاجة التي إكتسبت لوناً بنياً بدرجات متفاوتة، وبجانب الطبق قطعة من ورق الصحف القديمة، لوضع العظام والفضلات المتبقية من الدجاجة ( في الغالب لا يترك خلفه فضلات تقريباً). بدا لي المشهد طبيعياً في بادئ الأمر، شخص يحب أكل الدجاج، إنسان وحيد ينتظر الحصول على الإقامة وليس لديه ما يُسلي به نفسه سوى الأكل. لكن المفاجئة التي إرتطمت بوجهي في اليوم التالي، جعلتني أغير رأي بالموضوع، حيث خرج ذات الرجل من غرفته في نفس توقيت اليوم السابق وأعد العدة من جديد، وانشغل بشواءِ دجاجة جديدة. ومع مجيء اليوم الثالث، تداخلتْ الكثير من التساؤلات في رأسي، بعد أن شاهدته يفعل ذات الشيء ويُكرِّرَ نفس الخطوات بالضبط وبنفس التوقيت، وهكذا مضت الأيام والمشهد يتكرر، فيما أنا أراقب كل يوم حفلات الشواء وهي تتناسل مقابل نافذتي الصغيرة، وصرتُ أتابع ما يقوم به الرجل وأرى السعادة في كل حركاته وسكناته. لقد تجاوز فكرة كونه غريب الأطوار، وعليَّ إيجاد تسمية أخرى تُناسب ما يقوم به دون جزع ولا إكتفاء! لذا قررتُ أن أسأل جاري الشاب الذي يسكن في الغرفة المجاورة عن هذا الرجل المغرم بأكل الدجاج، والذي لا يلوي على شيء للوصول الى ذروة المتعة وهو يُحَوِّل الدجاج الى أشلاء تعرف طريقها جيداً نحو معدته التي تنتظر ذلك أكثر من إنتظار صاحبنا للإقامة في هولندا. لكن جاري عَمَّقَ حيرتي قائلاً (إنه منشغل بإلتهام الدجاج مثل إبن آوى. وهو يقوم بذلك قبل مجيئك، بل قبل مجيئنا كلنا، فحين وصلتُ مع المجموعة الى هنا، وجدناه وحيداً منشغلاً بإلتهام الدجاج، لكننا رغم فضولنا، لم نجرؤ على سؤاله عن ذلك، فهو قليل الكلام وكثير الأكل، لا يحب الاختلاط بأحد وينفق كل نقود الإعانة في المتجر الوحيد الموجود في المنطقة). عندها قررتُ أن أسأل إبن آوى بنفسي، وأعرف سر غرامه بأكل الدجاج. في اليوم التالي وبينما هو يضرم النار في الموقد الصغير الذي صنعه من غطاء صندوق حديدي مهمل، إقتربتُ منه وحييته بلغة انجليزية بسيطة، رد التحية وهو منسجم بتخفيت النار ثم وضع الدجاجة التي استقرت في مشبك حديدي هو في الحقيقة أسلاك معدنية، يبدو إنه جمعها من النفايات. مَرَّتْ بضع دقائق حتى فاجأته بسؤال مباغت (يبدو إنك تحب أكل الدجاج؟) فرمقني من وراء الدجاجة التي تلتمع فوق اللهب وقال كلماته التي إختلطت بالدخان الأزرق الذي بيننا (ومن لا يحب أكل الدجاج؟) بعد حديث قصير عرفتُ بأنه يتكلم العربية قليلاً، فهيأت سؤالي الذي جئتُ من أجله وأطلقته مباشرة (أراك تأكل كل يوم دجاجة كاملة، هل هذا طقس معين أم هناك سبب ما لقيامك بذلك). نظر نحوي بوجه جائع ولم يجبني، وعادَ لتقليب دجاجته التي اقترب لونها من اللون البني وهي تتوهج فوق النار، فتركته ومشيتُ نحو غرفتي، ولم أكد أخطو بضع خطوات حتى سمعتُ صوته متهدجاً خلفي (لم أذق طعم الدجاج في حياتي كلها، وقبل مجيئي الى هنا، كنتُ قد سمعت عن الدجاج، وشاهدته بضع مرات بالمصادفة، لكني لم أكن أعرف طعمه أبداً). لا أعرف لِمَ تعاطفت معه وأحببته في تلك اللحظة، وتفهمت دوافعه جيداً. تمنيتُ له طعاماً لذيذاً ومضيت نحو غرفتي. مرت بضعة أيام، وفيما كنت خارجاً، لمحته جالساً خلفَ طاولته المتهالكة، ومنشغلاً بإلتهام بعض الخبز والخضروات والجبن الرخيص، لكن أين ذهبت دجاجة اليوم؟! هكذا تساءلتُ مع نفسي، وأسرعتُ نحوه متساءلاً (أراك اليوم لا تأكل الدجاج، في حالة غريبة لم أعهدها منذ قدومي الى هنا. هل غيَّرتَ التوقيت؟) فأجابني بحزم (اليوم فقط حانت اللحظة التي توقفت فيها عن أكل الدجاج)، كان وقع إجابته قد خدشَ نوعاً من الغبطة في داخلي، فسألته (لكن لماذا؟ ماذا حدث؟ ألم يعد الدجاج لذيذاً؟) وهنا أجابني بوضوح كبير وثقة لم أتوقعها منه (لا داعي للإستمرار في أكل الدجاج بعد أن عرفته جيداً وعرفت طعمه وكل تفاصيلة وحتى عدد عظامه، أنا سعيد الآن لأني أعرف الدجاج مثلك ومثل هؤلاء الأنذال الذين ينظرون نحوي بريبة، نعم لقد قررتُ التوقف عن أكل الدجاج).