حيدر المحسن
كانت بقايا ضوء النّهار لا تزال تنير الطّابق السّابع من البناية. جنب باب الشّقّة الثّالثة قطعة خشب كتب عليها: “بيت العود”.
قرعتُ الجرس، وفتح البابَ كهلٌ بعينين رماديّتين وشعر كستنائيّ اللّون طويل، وتنبّهت للأثر الواضح في جبهته يدلّ على أنّه خلع القبّعة للتوّ. رحّب بي وقادني إلى صالة واسعة، ودهشت للسّجّاد المفروش في كلّ مكان على الأرض، وعلى الجدران، وكان هناك عدد من آلات العود موزّعة على الطّاولات. قلتُ مازحا:
«هذا بيت السّجاجيد، وليس بيت العود”.
«زوجتي مولعة بسجّاد (يريفان) وتعدّه سرّ السّعادة في البيت”.
قال الرّجل، وسألني عن نوع قهوتي، ثم علا صراخ من داخل الشّقّة، واندفع إلى الصّالة صبيّ أشقر الشّعر بنظّارتين مدوّرتين. فُوجِئَ بوجودي، ووجّه إليّ نظرة متوسّلة:
«افتح الباب، أرجوك. أريد أن أذهب إلى البيت». ثم كرّر رجاءه، وازدادت الضّراعة في عينيه: «هيّا. افتح الباب أرجوك. بيتي قريب من هنا».
«يا تالين! تعالي إليّ!».
صاح الكهل بصوته القويّ، وظهرت من داخل الشقّة امرأة بدينة، أمسكت بالصّبيّ من ذراعه. بان على وجهه ذعر طفوليّ، وترنّح قاصداً النّافذة. ظلّ يدور بينها وبين الجدار المقابل. ثم راح ينظر إلى قطّة رماديّة اللّون تتمشّى على إفريز الشّرفة. ألقت القطّة نظرة طويلة على الصّبيّ، ثم قفزت عاليا متسلّقة السّياج المقابل. تمكّن الصّبيّ من أن يفلت ذراعه من بين يدي المرأة، واتّجه إلى باب الشّقّة محاولا فتحها، ولمّا فشل عاد إلى النّافذة وبدأ يصفّر. وضع الإصبع الثّانية والثّالثة من كلتا يديه في فمه، وأخذ ينفخ بكلّ قوّته. تعاون الرّجل والمرأة بجرّه إلى داخل الشّقّة، وعندما توارى خلف أحد الأبواب ترك وراءه شيئاً قربي، شيئًا غير مرئيّ، حيّاً وحقيقيًّا.
“هو ابني، ومصاب بفصام الطّفولة».
قال الكهل، واختفى من فرط انفعاله الحزّ الذي تركته القبّعة في جبينه. تعالى صفير الابن في تلك اللّحظة:
«هاكوب! يا هاكوب! أين أنت؟».
صرخت المرأة البدينة، وقفز الرّجل من مكانه. لم أستطع منع نفسي من سماع توسّلات الرّجل والمرأة، وهما يحاولان إسكات الطّفل بلغة أرمنيّة لا أفهمها، وكان يصلني بكاؤه وصراخه. وفي فمي، صار طعم الحديد والصّدإِ بدل مذاق القهوة. صرتُ شخصاً ممروراً. قال الكهل، عائداً من داخل الشقّة:
«رغم العلاج تأتيه نوبات هياج تضطرّنا إلى شدّ وثاقه بالسّرير”.
بدا الرّجل أصغر حجماً وأنحف، وعيناه الحمراوان تزوغان عن الالتقاء بعيني. طلبَ منّي أن أجرّب إحدى الآلات، لكنّه لم يكن معي. حاولتُ العزف على عود، وكنت أشدُّ أوتاره ويصلني من داخل الشّقّة أنين خافت.
«كما ترى، سجنُ البيت أفضلُ كثيراً من سجن المصحّ” قال العوّاد، وأنا أودّعه.
خرجت من الشقّة، ونزلت السّلّم المظلم، وكان أنين الطّفل واضحاً في أذني. هنالك سحب في السّماء تخفي تحتها قمراً يضفي نوراً لطيفاً على الكون. كم يبدو هذا كلّه بسيطاً ومكتملاً! سلكت الممرّ المعشوشب الذي تظلّله أشجار اليوكاليبتوس، ووصلت مبنى القسم الدّاخلي للطلاّب. وبلا مبرّر، أغلقت باب غرفتي بالمفتاح.
مرّت ساعة، وأنا جالس على الأريكة. كنت أشعر برأسي يحترق من التّفكير في الصّبيّ السّجين وصفيره ونشيجه وعينيه الباكيتين من وراء النظّارتين السّميكتين. ثم عزفت على آلة العود، وأحسست بالنّغم الأعذب يمسّ شغاف قلبي. آه. كان الوتر الرّابع يزغرد، وبقية الأوتار ترجّع له الصّدى، وخيّل إليّ أن عينيّ تنخطفان، وانفتح أمامي فجأة طريق قادني إلى أصفى لحظات حياتي، وأكثرها محبّة. كم تغسل الموسيقى الهموم! تبدّت الحياة لي سهلة وبسيطة مثلما يعيشها الأطفال وتحياها القطط، وغطّتني الموسيقى بالراحة والسكينة والهناء، ولفّني النعاس، فنمتُ.
هل كنت أعزف في حلمي؟
لا أدري في الحقيقة كيف جرت الأمور بعد ذلك. لكني وجدتُ نفسي مقذوفاً خارج المبنى، وكنت أهرول في الشارع، إصبعي الثاني والثالث من كلتا يديّ في فمي، وأنا أصفّر، وأصفّر... أريد أن أبعث لحناً إلى السماء، وأن أمنح نفسي بكليتها... نعم بكليتها... لا أدري لمن! وكان دمعي يسيل على وجنتيّ، فاضحاً سعادتي!