لطفية الدليمي
تنهّدتُ تنهيدة طويلة كمنْ أزاح عبئاً ثقيلاً عن أكتافه وأنا أضعُ لمسات الختام على (كراساتي الباريسية) مع خاتمة عام 2022. سنواتٌ خمسٌ وأنا أكتب في هذه الكراسات ولم أنته منها إلا بشقّ الأنفس ومعاناة شتى أشكال انقباض الصدر وألوان تشنج الرقبة وآلام الرسغ. هذه الكراسات أمْرَضَتْني بكلّ المعنى الحقيقي لمعنى المرض. أنجزتُ كتباً كثيرة بين تأليف وترجمة، وكتبتُ مئات المقالات خلال السنوات الخمس تلك، وظلّت الكراسات الباريسية حبيسة أدراج النسيان (الافضل أن أقول التناسي) وتستعصي على الاكتمال.
أن تكتب عن معاناتك النفسية والوجودية والثقافية والحضارية في بلاد غير بلادك (ودعونا من شكل تلك البلاد، لن يختلف الأمر كثيراً إذا ماكان توصيفها منفى أو مهجراً أو لجوءاً أو طلباً لفرصة إقتصادية منتظرة) فذلك أمرٌ شديدُ الوقع على القلب. أن تتحوّل من إسمٍ معروف له شيء من إمتيازات المكانة التي خصّه بها منشط ثقافي أو مهني إلى إسمٍ يُستعاض عنه برقم لدى سلطات اللجوء أو المنفى فذلك مبعثُ صدمة حضارية ثقيلٌ وقعها على الروح. أوّل ماسيجول ببالك وأنت تطأ (بلادك) الجديدة: ماذا فعلتُ بنفسي؟ ثمّ عندما تتكشّف الايام اللاحقات عن خشونة في التعامل أو إحتكاك مؤذ مع تفاصيل كثيرة لابدّ هي حاصلة مهما توسّمنا فينا القدرة على تجاوزها فحينئذ ستتكشّف أمامنا الصورة الكاملة من غير رتوش: باريس أو لندن أو فرانكفورت أو،،،،، ليست تلك التي رسمتَ لها صوراً باذخة من التحضّر والتعامل مع القيمة الانسانية للفرد بغضّ النظر عن خلفياته. الصور التي نرسمها ونحنُ مسترخون في أماكننا القصية ليست هي التفاصيل الحقيقية لوقائع الاحوال على الارض. (الماء يكذّبُ الغطّاس) كما يفيد المثل المصري.
كانت باريس في نظري الوريثة الحقيقية للتنوير الاوربي. كنتُ أقدّمُ وأنا في بغداد التراث التنويري لباريس على مكانتها المعروفة كعاصمة للأزياء والعطور والجمال. صحيحٌ أنني لم أيمّمْ شطر باريس متبطّرةً بل هذا هو ماأتيح لي بعد معاناة قاسية في بغداد عام 2006 – تلك المعاناة التي حكيتُ عنها بتفصيل موجز في التمهيد لكراساتي الباريسية ؛ لكنْ عندما أصبحت باريس الخيار الأوحد المتاح أمامي لم يكن لي خيارٌ إلا إستعادة تلك الجرعة التنويرية التي طبعت كلّ منتجات الثقافة الفرنسية وبخاصة في الميدان الفلسفي. تكشّفت لي الحقائق المؤلمة عن باريس بعد حين لم يكن طويلاً. تراث التنوير الفرنسي شيء، وحقائق باريس المؤلمة شيء آخر تماماً.
ربما يعرفُ القرّاء المتابعون لي في الفيسبوك (وأغبط نفسي أنّ لديّ عدداً كبيراً من أصدقاء – حقيقيين وافتراضيين - يحبونني حباً حقيقياً وأبادلهم الحب ذاته) أنني أعمدُ، ومنذ بضع سنوات، إلى نشر موضوعات منتخبة من كتبي المؤلفة أو المترجمة وبحجمٍ لايزيد عن 2 % أو 3 % من الكتاب على صفحتي الفيسبوكية بعد نشرها في (المدى) لتكون عيّناتٍ تمكّنُ القارئ من إستكناه موضوعة الكتاب وسياقه، وقد حصل أن نشرتُ قسميْن من كراساتي الباريسية حتى الآن. فاجأني القرّاء بتعليقات كثيرة مكتوبة بطريقة أستطيعُ القول أنّني شعرتُ بالانفاس الحارة التي زفرها كاتبوها وهم يكتبونها. صار واضحاً لديّ أنّ هذه الكراسات لامست وتراً موجعاً في نفوس الكثيرين منهم.
كان تعليق الدكتور (خالد السلطاني) أحد أكثر التعليقات التي طفحت بالمرارة والوجع ؛ فقد كتب تعليقه وكأنّه كان ينتظر منذ زمن بعيد قراءة مثل هذه الكرّاسات ليفيض بمكنونات قلبه، وماأوجعها من مكنونات !! إقرأوا معي ماكتب الدكتور السلطاني:
« لأكن صريحاً معك ؛ فقراءتي لمنشورك كان بالنسبة إلي «تمريناً» في الشجاعة أو رؤية الشجاعة والاحساس بها لدى الاخرين؛ فاستعادة «آلام» اللجوء وقضاياه (وأنا مثلك مررت بتلك التجربة رغم اختلاف النتائج) كانت بالنسبة إلي «جحيماً» لا يطاق ولا أودُّ أن أتذكره أو حتى أستعيده في الخيال. إنه رغم التصاقه بي و»حَفْره» الموجع في ذاكرتي لكني أسعى وراء نسيانه واغفاله من وقائع حياتي. لاأريد أن أتذكر أيامه وأوقاته لجهة مآسيه ومرارته اللتين مررت بهما أنا وزوجتي.
من هنا أقدّرُ عالياً شجاعتك وأحيي بسالتك في سرد تلك الازمنة الملعونة والمؤلمة بمثل هذا السرد الموجع والمؤلم…والمبدع! “
جاء هذا التعليق صدمة كبيرة لي ؛ فقد عرفتُ الدكتور السلطاني أستاذاً للهندسة المعمارية يكتبُ بطريقة هادئة وموغلة في العقلنة، ويوظّفُ في موضوعاته المعمارية لغة سردية متقدّمة. أنظروا ماذا يفعلُ وجعُ الهجرة أو اللجوء في الروح؟ في مستطاع هذا الوجع أن يجعل رجلاً هادئاً معقلناً أن يتحوّل لطاقة وجع هائلة نكاد نتلظى بها حتى لو جاءت في صيغة تعليق فيسبوكي.
نتعلّمُ من تعليق السلطاني أشياء مهمّة. عندما تقرأ كتب السلطاني – أو سواه من الأكاديميين الذين غادروا أوطانهم لشتى الاسباب – ربما يتلبّسك إعتقادٌ فوري أنه لم يفعل شيئاً سوى أنه أبدل بلداً ببلد آخر واستطاع – بشكل ما – مواصلة مشواره الاكاديمي أو المهني أو الابداعي. الامر ليس هكذا أبداً. صورة السطح في بحيرة هادئة لن تكشف لك ماقد يمور في قاعها من هيجانات وحروب شرسة.
الامر الثاني الذي يجب أن نتعلّمه أنّ كلّ بلد له مشاكله ومنغصات العيش فيه، وأنّ الأرض التي تفيض (لبناً وعسلاً) على مواطنيها أخدوعة يوتوبية رسمها لنا فرط انخذالنا ببلداننا (الاصح بالقيّمين على بلداننا من سياسيين ومسؤولين حكوميين). ربما ستكون هذه الرؤية الجديدة تذكرة لنا بأشياء جميلة في بلادنا لم نتشرّب جمالها بفعل جهل أو حماقة حكوماتنا.
الامر الثالث هو أنّ كتابة المذكّرات (وبخاصة عندما تقترنُ بأوجاع متصلة بالمنفى والذاكرة والاحتكاكات الثقافية الخشنة) فعالية تنطوي على قيمة تطهيرية. أنا حقاً أكثر راحة وخفّة روح بعد أن أكملتُ كتابة مذكراتي الباريسية.
ليس لي إلا أن أقول للدكتور السلطاني: خُضْ غمار « تمرين الشجاعة « واكتب مذكراتك، وتخفّفْ من أوجاع ذاكرتك التي لن تفارقك إلّا بعد أن يضمّها كتاب.