حيدر المحسن
نحمل في الغالب صورا لا تُحصى للغائب عنّا، لكن واحدة منها تختصر الجميع، وتطفو على نهر الذاكرة، وتظلّ تعاند التيّار كلّما تقدّم الزمن. ربما زاحمتها رؤية أخرى وأكثر، لكن الغلبة تعود ثانية إلى وجه الغائب بصورته التي رسخت، كأنه ثبّتَها في هويّة الذاكرة، فلا مجال للتغيير أو التزوير. هل ندعوها "الصورة البصمة"؟
وكانت بصمة صورة (أمي الثانية) بهذا الشكل وهذه الهيئة: المكان هو سجن (أبو غريب) الشهير، في الساحة التي يلتقي عندها المسجونون بأهلهم، وكان أخي "ضامر" غاب عنّا سبع سنين من العذاب، والتُّهمة كانت سياسيّة باطلة، وصار اللّقاء الأوّل معه في الفناء الواسع للسّجن. كانت السّماء رماديّة وكذلك وجوه الناس، وكان أخي مهزولا من أثر الحبس والتعذيب والعزلة الشديدة. ها إني أسمع الآن بكاء أمي يأتيني من خلف رِكام السنين، وكانت تلمّ أخي بلهفة الملتقى، بينما وقفت أمي الثانية «جميلة محمد حسن» ساكنة، تنظر إلى أخي وتبكي آلامه التي رأتها في وجهه بحرقة بقيَ لسعها في جلدي ولحمي وعظمي حتى اللّحظة. انتهى عناق أمي الأولى لأخي، وقد طال دقائقَ ضوئيّة، ثم حانت لحظة ارتمائه بين يدي خالتي، أو بالعكس، ربما وجدت المسكينة الهناء بين يديه بعد سبع سنين من العذاب. أيّ سعادة أنك كنت تعيش في حضن أجمل الأمّهات، حتى أن فراقها لا يُعدّ خسارة، لأنك تحتاج أن تعيش بنفسٍ شُجاعةٍ كي تقدّر نعماءها، وهذه لن تفقدها إلى الأبد، فهي تعيش معك في العين والقلب والخاطر.
هل تريدون صورة أخرى لجميلة محمد حسن؟
أوّل توقيع عرفته وأحببته كان توقيعها؛ الحرف الأول من اسمها يلتفّ مثل موجة على الورق تنمو باطّراد، وتتكسر ثم تتشظّى وتنتهي. كانت تعمل مديرة مدرسة، وتحمل معها الوثائق والشهائد وقائمات الرواتب إلى البيت، حيث تنجز أعمالها في ليالي الشتاء الطويلة، وكان الطفل الصغير يرقبها، ويحبّ كل ما تقوم به، ويجرّب بسبّابته من أثر الانفعال أن يرسم اسمه مثل موجة تنمو باطّراد، وتتكسر على الشاطئ...
«ضامر» اسم استثنائيّ، وجاءت حياة أخي استثنائيّة هي الأخرى لأنه يحمله. سُجِن عشر سنين وفُصل من كليّة الطبّ، وتقلّب في مهن عديدة، ثم عاد وأكمل دراسته بعد ربع قرن، وحصل على الماجستير من جامعة عين شمس في القاهرة، وهو يزاول اليوم عمله طبيبا استشاريّا في التشخيص بالأشعّة والسونار. جميلة محمد حسن هي التي اختارت له اسمه الفريد حين ولادته، وكان فعلٌ يدلّ على النبوءة لأن سيرته جاءت رائعة وفريدة هي الأخرى.
لكني لم أرضَ بالواقع مصدرا وحيدا لصورة أمي، وأدّى قلم الفنّ خربشته، وجاءت هذه اللّمحة عن حياة خالتي التي لا تنتهي، حتى لو فنيتُ أنا ومحا الزّمان اسمي. وإليكم تفاصيل النّصّ الذي يعود إلى صورة وصفيّة لمسكنها في بيت أهلي في مدينة العمارة؛ وجاء في قصة قصيرة عنوانها «خلود»، في إشارة إلى روحها التي لا تموت:تقع غرفة خالتي في ركن مستقلّ هادئ في البيت، ولها نافذة تُشرف على السدرة العالية والشمس وأزهار الحديقة. أدخل الغرفة في الفجر قبل الصلاة، وتطالعني أولاً ظلال باهتة منقوعة برائحة الستائر والسجادتين المتماثلتين والسرير الفارغ، المكتبة إلى يمين السرير ودولاب الملابس على اليسار. أفتح النافذة وأشمّ رحيق السدرة. أصلّي وتأتيني زوجتي بالفطور.أقضي نهاري في العمل وتراودني أحياناً أفكارٌ غريبة عن هذه الغرفة. هل يمضي الزمن في كل مكان بالسرعة ذاتها؟ الساعة تشبه العجلة، تنطلق وتتعجّل وتسرع أو تبطئ وتتوقف بفعل قوانينَ غامضةٍ. عادات الحياة في غرفة خالتي لا تتأثر بالزمن، الظلال الخاملة تفرشها، والدَّعَة تسكنها طوال الوقت.قبل أذان الغروب أعود من عملي وأغتسل واتّجه مباشرة إلى غرفتها. رغم أن السرير فارغ - ماتت خالتي منذ ثلاثين سنة- لكني أحيّيها كلّ يوم بهذه التحيّة:
«مساؤك خير يا خالتي».