حيدر المحسن
دام النزاع الذي سُمّي بالحرب العراقية الإيرانية 2888 يوما، وكلّف البلدين خسائر بلغت 1900 مليار دولار، وكان يمثل أطول نزاع عسكري في القرن العشرين – الكلام من الويكيبيديا - وقُورن بالحرب العالمية الأولى، وتراوحت تقديرات الضّحايا ما بين مليون ومليونيْ شخص، مع عدد أكبر من الجرحى،
وكانت السّلطات تزوّد أهالي الجنود الذين غيّبتهم الحرب بإحدى الهويّات: شهيد، أسير، مفقود، وهناك فئة أخرى بلا هويّة، وهم الذين يمكن أن ندعو واحدهم (بالميّت البديل) ؛ الجندي الذي سيق إلى كهوف الأسر، ونتيجة للصّدفة أو لسوء الحظّ يتسلّم ذووه جثّة أخرى، ولأن آلة الحرب تدوس الوجوه وتطمسها، فلا يعرف الكثيرون أبناءهم في الشكل، ويدفنونهم وينسونهم بعد مرّ السنين. ثم تتوقف الحرب، ويعود الجنديّ "الميّت" إلى أهله، ويبدأ عندها فصل جديد لم يحدث في بقعة أخرى غير أرضنا. كما أن هنالك الأسرى، والذين لم تتوفّر إحصائية دقيقة لأعدادهم، لأنهم يصيرون بمرور السنين ورقة ضغط يحاول أن يؤثر بها البلَدان المتحاربان كلّ على الآخر. وقد يطول الأسر إلى عقد من الزمان، وعقدين، ثم يعود الجنديّ إلى أهله، وتصعب الأمور حين يكون من ضمن الميّتين بالبدل، إن صحّ التعبير. أما المفقودون فقد بلغت أعدادهم مئات الآلاف، وهؤلاء لا يضمّهم قبر، لأن ساعة موتهم حانت وهم في الأرض الحرام، وبعد شهر أو أكثر، وعندما تتوقّف الهجمات، يتّفق الطرفان المتحاربان على دفن هؤلاء، ولا يستدلّ أحد على هويّتهم بعد أن فعل الزمن وآفة الحرب فيهم، ويُرسلون عندها إلى مقابر صورية في تراب البلد الأم، مع شاهد واحد يحمل اسما للجميع هو: "رفات شهيد". ويحدث أن ترصّ الزوجة حجرا على قلبها، وتختلق أكذوبة تمتصّ بها حزن أبنائها على فراق أبيهم المفقود، وتخبرهم أنه سيعود قبل الصّيف، أو في نهايته، أو في موعد آخر، وتنتقل الكذبة من لسانها إلى آذان الآخرين، وتدور لتعود بصورة "بشارة" تصدّقها الزوجة المسكينة قبل الجميع. جميع القصص التي كُتبت عن الحرب حقيقية، فالخيال محدود وسط هذا الجحيم، ويبدو أن لا موهبة لها القدرة على صنع تيمة واحدة من تلك التي يكون فيها لفوضى الخيال يد طولى تكتب بها الفجائع.
النّهاية الثّانية
هو عنوان قصة لفؤاد التكرلي تحكي عودة الجندي (عبد الكريم الحاج مهدي) إلى أهله، بعد أن قضى أكثر من ست عشرة سنة في الأسر؛ ذراعه اليسرى مشلولة، وكذلك ساقه، مع ثغرة في وجهه، وأخرى أعمق في صدغه، وشفة مندلقة وأنف مكسور. ما الذي تبقّى من صورته الأولى عندما كان جنديا في الثامنة عشرة؟ عاد الأسير إلى الوطن ولم يعرف أحدا ولا عرفه أحدٌ. لقد غيّب الموت الجيران وجيران الجيران، وبعد رحلة طويلة وأسئلة تؤدي إلى أخرى، وحوارات مع من بقي حيّا وذا ذاكرة سليمة، أخبروه أن أخاه "صادق" فار تنّوره وتراكمت الأموال لديه دون حساب، ابن العائلة الفقيرة صار تاجرا يملك قصرا في أرقى أحياء بغداد، والأمر الأخطر هو أن أخاه تزوّج "وديعة"، زوجته. يقول أبو تمام:
«لا أنتِ أنتِ ولا الدّيارُ ديارُ».
يأتي الأسير إلى بيت أخيه كي يعرّف عن نفسه، ويشكّ أخوه في أمره، فهو ميّت منذ زمن طويل، أنزلوه إلى القبر بأيديهم ودفنوه وأقاموا له مجلس العزاء، فما معنى هذا الهراء؟ يوجّه الأخ أمره إلى حارسه "رجب" بأن يرميه خارجا:
«لم يسنح له الوقت كي ينبس بكلمة أخرى، فقد احتواه ذلك الرجب بشكل غريب ورفعه ثم حمله، كعصفور ميّت، إلى الخارج، ولم يتركه إلاّ بعد عشرين مترا».
تبعا لأدب القبور، فإن أرواحنا تخوض أهوالا عدة بعد الموت، واختار التكرلي عنوان "النهاية الثانية" للقصة ليصوّر موتا غير ذاك الذي يتجرّع مرارته بنو البشر. كأن العالم كلّه تعاون من أجل أن يحوك بإتقان شديد أسباب نهاية الذين تتمسك بهم الحياة، وتبعدهم عن المغادرة إلى دهاليز الموت، ويا ليتها لم تفعل، لأن حياتهم الباقية أفضل منها الموت، بكثير.