طالب عبد العزيز
بدشداشة بيضاء وأصابع مثل أقلام الصفصاف انتشل سعد اليابس، عازف الطبلة الاشهر في البصرة فن الخشابة من الابتذال. هو ومجموعة من زملائه الفنانين نقلوه من الصخب والمجون الى النظام والحشمة، وكان لصمت اليابس وهدوئه واتزانه فعل السحر في تغيير وجهة نظر الناس عن الخشابة، الفن الذي نشأ في ظروف وأمكنة ملتبسة، وتعاملت طبقات المجتمع البصري معه منذ أربعينات وخمسينات وستينات وحتى السبعينات من القرن الماضي كما لو أنه مرتبة منحطةً في السلوك الإنساني.
يقول بورخيس:" للتانغو جذرٌ معيب" والخشابة لها جذرٌ معيب أيضاً. ففي السنوات تلك كان الكثير من جماعة الخشابة، من السود والبيض، في البصرة القديمة والزبير وابو الخصيب لصوصاً، ومتهمين بانحرافات أخلاقية وجنسية، ومعاشرة الصبيان، لذا فهم غير محترمين، وكثيرا ما نشأتْ بينهم خصومات وصدامات تبدأ بالعصي، ولا تنتهي بالخناجر والسكاكين، لذا فهم رجالٌ أشداء بمعنى ما، وذوي بأس، وكثيراً ما شاهدتُ سكاكينهم تلك، محشورة في جيوبهم مع علب السكائر وقناني الخمرة. كنتُ أتلمس الفجوة الضيقة بين ما أسمع من أغانٍ والتماعات الانصال التي ربما سالت منها الدماء. حتى ليبدو لي الخشَّابُ مثل راقص التانغو الاول في بيونس آيرس بالارجنتين، الذي نشأ بين أوساط الزنوج، وفي بيوت سيئة السمعة (الدعارة) حيث كانت تشهرُ السكاكين ايضاً. هذا الفن الذي رفضته طبقات المجتمع هناك، مع أنه كان يقام في مناسبات عقود القران والزواج.
قبل أنْ يبتكر الخشَّابُ (خليف السعيد) فكرة كسر قحف الطبلة برأسه، إذا أخفق الولد الراقص معه ولم يأت صوتُ الطبلة المكسور منضبطاً مع حركته في الرقص (ينكسر الصوت حين يخسف الطبّال جلد الطبلة بيد ويضرب عليها بالاخرى) قبل الوقت ذاك كان الشجاريأتي على الطبول أيضاً، فتمزِّقُ الجماعةُ هذه جلود طبول الأخرى وتهشِّم قطعَ الفخارأو تقذف بها في النهر.. هكذا مثلما حدث في الرقصة التي سخر فيها عازف القيثارة من كُروس في احدى الأماسي ببيونس آيرس. ولم ينتظر كروس فقام من جهته بقطع اوتار القيثارة بالخنجر، ثم دعا عازف القيثارة الى مبارزة فقتله بوحشية:" هناك تركتُه مبعوجَ الأحشاء/ كما لو ليصنع منها أوتاراً».
إذا كان فن التانغوقد نشأ في أحياء الزنوج الفقيرة في بيونس آيرس، وهو افتراضٌ اعتمده بورخيس ليس إلا، فأن فنَّ الخشابة لم ينشأ في حمدان، القرية الصغيرة، التي تقطِّع الانهارُ دروبَها، وسط غابة النخل، حيث كان (ربيع خميس وشقيقه معتوق) ومن قبلهما العم (عنفوس) هناك، ولم تكن بليدة الزبير موطناً له، حيث كان أبو دلم وحميد مجيد يغمرون رملتها بأصواتهم، كذلك لا يمكننا ان ننسبه الى محمد بتور في البصرة القديمة، لكنَّ الفنَّ الملتبس هذا حاصر المدينة من جهاتها الثلاث، واتنشر مثل أوراق كتاب اسطوري بعثرته الريح.
يقول محمود مبارك بانَّ السفن التي أبحرت من مومباسا بتانزانيا هي التي حملت معها خليف السعيد وحشد الاصوات الشجية تلك، فأقول: ولعلها تلك التي أقلعت من زنجبار والساحل الافريقي.
بدشداشته البيضاء وغترته الحمراء خلص سعد اليابس فن الخشابة من دونية ماضيه، ونصبه لوناً غنائياً بصرياً خالصاً، إذ، لم يعد الناسُ يتحدثون عن الخشابة إلا بوصفها الفن الجميل الذي يطرب له الجميع، وبدونه لا تحلو مناسبات عقود القران والتزويج والنجاح. وإن لم يذهب أحدٌ به الى باريس، كما فعل بالتانغو زنوجُ بوينس ايرس.