اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > كـورمـاك مكـارثـي* حياة مثيرة مع الكتابة

كـورمـاك مكـارثـي* حياة مثيرة مع الكتابة

نشر في: 31 يناير, 2023: 11:53 م

ريتشارد بي. وودوورد

ترجمة : لطفية الدليمي

- القسم الاوّل -

ريتشارد بي. وودوورد Richard B. Woodward، الذي إمتدّت معرفته بكورماك مكارثي لأكثر من ثلاثين سنة،

يكتبُ عن حبّ مكارثي - الذي لم يفترْ توهجه - للتفكير العلمي، كما يتناول وودوورد الاسباب التي دفعت مكارثي لنشر روايتين في توقيتيْن متقاربيْن (من أواخر عام 2022، المترجمة) عقب ستة عشر عاماً من الصمت الروائي.

محرّر صفحة (الكتب) في الغارديان

 

لعشرين سنة خلت أو مايقارب ذلك كان المكان الأكثر إحتمالاً لأن تجد فيه كورماك مكارثي Cormac McCarthy - الروائي – الكاتب المسرحي – كاتب السيناريو، الخَجِلُ من الأضواء الاعلامية – هو معهد سانتافي Santa Fe Institute في نيو مكسيكو الامريكية. تأسّس ذلك المعهد عام 1984بمشاركة موراي غيلمان Murray Gell-mann، الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1969، وهذا المعهد هو أقربُ لنموذج مركز لصناعة الافكار Thinktank التي هي في النهاية نتاجُ أفضل العقول الخلاقة في عالمنا المعاصر. وصف غيلمان، الفيزيائي متعدّد المواهب والامكانيات Polymath صديقه مكارثي بأنه أحد تلك العقول الخلاقة، وهذا مادفع مكارثي للإنضمام إلى معهد سانتافي.

حتى أوقات قريبة من يومنا هذا كان يمكن سماعُ الكاتب مكارثي في معهد سانتافي وهو يُحدِثُ جَلَبَة لاينقطع ضوضاؤها عندما تنقرُ أصابعه على مفاتيح الآلة الكاتبة وهو قابعٌ في مكتبه. ظلّ مكارثي شخصاً لطيفاً دمث المعشر وسط هذه الجمهرة من المجتمع النخبوي، من غير أن تُعهَدَ إليه مهمات محدّدة مطلوب إنجازها بتوقيتات محدّدة. كنتَ ترى مكارثي يغادر مكتبه بانتظام لتناول شاي العصر أو حضور مناقشات أساتذة معهد سانتافي المقيمين فيه أو الاكاديميين الزائرين، وكانت تلك المناقشات تتناول موضوعات شتى من الصنف الذي يرغبه مكارثي ويجده مثيراً لتفكيره، مثل : نظرية النظم المعقّدة Complex Systems Theory أو الحوسبة الكمومية Quantum Computing.

عرفتُ مكارثي منذ عام 1992 عندما كتبتُ مادة تعريفية به لصحيفة النيويورك تايمز، كما كتبتُ مادة تعريفية ثانية له عام 2005 لمجلة ( فانيتي فير Vanity Fair ). تحادثنا طويلاً عبر الهاتف مرّات عدّة، وفضلاً عن إهتماماتنا الفكرية فهو يتشارك معي عشق سباق السيارات السريعة. حضر مكارثي حفل زواجي، ولاأذكر يوماً أنّه تفوّه بكلمة تشي برغبته في المحاججة أو القتال الفكري. مكارثي كائن يعشق الخصوصية، ويتوجّبُ على كلّ من يعرفه أن يعرف هذه الخصيصة فيه ويتعامل على أساس إحترامها الكامل وعدم تجاوزها.

عندما زرتُ معهد سانتا في عام 2006 وجدتُ مكارثي منكبّاً على طاولة مكتبه يكتبُ مادة تخصُّ عالم لغويات روسي، وقد تطلّب الامر منه بعض القراءة في كتاب فرانك رامزي Frank Ramsey الذي عنوانه ( أسس الرياضيات ومقالات منطقية أخرى ). تساءلتُ حينها : كم يمكنُ لمكارثي الذي ترك الدراسة في جامعة تينيسي أن يتشرّب من بئر رامزي الجاف – ذلك البئر المتمثل في كتابه النحيف المنشور عام 1931، وسيتفاقم شعورنا بهذه المعضلة عندما نعرف أنّ رامزي عمل لفترة قصيرة مساعداً لامعاً لفتغنشتاين Wittgenstein في جامعة كامبردج !!.

المواد القرائية التي تتطلبُ عنتاً وجهداً ومثابرة حازمة هي المواد التي لطالما فضّل مكارثي قراءتها من أزمان بعيدة. لو راجعنا أنواع الكتب المحفوظة في رفوف مكتبه في سانتا في فلن نجد – كما قد يتوقّع معظمنا – روايات فائزة بجوائز البوكر ؛ بل سنجد بدلاً منها مخطوطات لكتب أصدقائه العلماء، ومنهم : ليزا راندال Lisa Randall، الفيزيائية النظرية في هارفرد، و لورنس كراوس Lawrence Krauss، المشتغل بالكوسمولوجيا ( علم نشأة الكون وتطوّره، المترجمة ) في جامعة ولاية أريزونا.

لطالما تساءلتُ بذهول في المرّات الست التي رأيتُ فيها مكارثي في معهد سانتا في : ماالذي يفعله مكارثي بكلّ هذه القراءات الغريبة التي يسعى للتشبّع بها بنهم وبخاصة أنني لم أجد أثراً لها في أيّ من أعماله حتى تلك التي نشرها بعد انضمامه لمعهد سانتا في – أعمال مثل لابلد للمسنّين No Country for Old Men ( 2005 )، الطريق The Road ( 2006 )، أو سيناريو فلم المستشار The Counsellor ( 2013 ) الذي أخرجه ريدلي سكوت.

يبدو الآن أنّ الجواب على هذا السؤال صار واضحاً لي : كان مكارثي يختزن كلّ تلك المادة التي إنكبّ على تعلّمها وتخزينها في ذاكرته لكي يوظّف الشيء الكثير منها في روايتيه المسافر The Passenger و ستيلا ماريس Stella Maris اللتين نُشِرتا خريف عام 2022 بعد مايقاربُ الخمسة عشر عاماً من نشر روايته ( الطريق ) التي فازت بجائزة بوليتزر. ( يمكنُ قراءة الروايتيْن معاً أو منفصلتيْن، وبأيّ ترتيب يشاؤه القارئ ).

ستيلّا ماريس، الرواية التي نُشِرت في كانون أول 2022، هي الأكثر توظيفاً صريحاً لنتاج سنوات مكارثي التي قضاها في سانتا في. تركّز الرواية على إمرأة عبقرية في الرياضيات، أليشيا ويسترن، خسرت مكانتها في العالم الاكاديمي في الوقت ذاته الذي فقدت فيه تماسها – الذي لطالما كان هشاً – مع الواقع.

كانت أليشيا بارعة في موضوع التوبولوجيا الرياضياتية، وتبادلت المراسلات مع عالم الهندسة الجبرية الاكثر شهرة عالمية في القرن العشرين، ألكساندر غروتندايك، ثم إنتهى بها الامر لتصبح حطاماً بشرياً تتناهبه الهلوسات والافكار الانتحارية. الرواية بأكملها هي مشهدية حوارية بين شخصيّن، مكتوبة في سياق سبع جلسات حوارية بين أليشيا - التي تسعى للتعافي من إضطراباتها – وطبيب مختص بعلم النفس المَرَضي. تجري الحوارات السبع في مصحة نفسية إسمها ( ستيلا ماريس ) تقع بولاية ويسكونسن الامريكية، تديرها جماعة كاثوليكية. عوملت أليشيا في المصحة باعتبارها مريضة بالفصام الارتيابي، وكانت إقامتها في المصحة خلال تلك الجلسات هي الاقامة الثالثة لها.

وفّرت صيغة السؤال / الجواب في سياق الحواريات هذه لمكارثي الفرصة – على لسان أليشيا بالطبع - لتناول أيّ موضوع يختاره. عندما تتتبّعُ أليشيا مسار حياتها، على سبيل المثال فحسب، فهي تخبِرُ طبيبها المعالج أنها كانت تتوقعُ أن تعيش حياة مثيرة كاملة لاينقصها شيء : إكتشفت الموسيقى وهي طفلةٌ بعدُ ؛ بل وحتى بل أن تكتشف الرياضيات، وكانت لها نظريات في كلّ منهما. رأت أليشيا في بواكير عمرها أنّ الموسيقى ليست لغة، وليس لها من مرجعية لأي شيء سوى ذاتها. إنها عالم مكتفٍ بذاته. بدا وكأنّ سلوكها الفاتر ليس سوى قناعٍ يخفي عزيمتها العنيدة. أكثر من طبيب شخّص حالتها بأنها متوحّدة نموذجية ؛ ولكن لأنها كانت أكثر ذكاءً منهم فقد بدت راضية بأن تحبط كلّ مساعيهم لتأكيد نوازعها التوحّدية.

نشأت أليشيا في بلدة لوس ألاموس التي تبعد قرابة الثلاثين ميلاً من موقع معهد سانتا في، حيث عمل أبوها فيزيائياً في مشروع مانهاتن Manhattan Project، ثمّ بعد نجاح تصنيع القنبلة الذرية في ذلك المشروع تلبّسه ندمٌ دام كلّ العمر لمساعدته في صناعة أوّل سلاح ذري في العالم. تعلّمت أليشيا كيفية حلّ المعادلات الرياضياتية بمعية أبيها في عمّر مبكّر من حياتها. تقول بشأن ذلك : " كلّ ماأستطيعُ أن أخبرك إياه هو أنني أحبّ الاعداد. أحبّ أشكالها وألوانها وروائحها وحتى طعومها !!. لستُ أرغبُ أبداً في إيلاء أي اهتمام لما يقوله البشر بشأن الأشياء التي في هذا العالم ".

* الموضوع منشور في صحيفة ( الغارديان ) بتأريخ 22 أكتوبر ( تشرين أول ) 2022. الرابط الالكتروني للمادة :

https://www.theguardian.com/books/2022/oct/22/cormac-mccarthy-life-in-writing-books-the-passenger

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

للحفاظ على «الهدنة».. تسريبات بإعلان وشيك عن موعد انسحاب القوات الأمريكية

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

قناديل: أما كفاكُمْ تقطيعاً بأوصال الوردي؟

التجنيس الأدبي والاكتفاء الذاتي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

رمل على الطريق

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

موسيقى الاحد: جولة موسيقية في فيينا

مقالات ذات صلة

التجنيس الأدبي والاكتفاء الذاتي
عام

التجنيس الأدبي والاكتفاء الذاتي

د. نادية هناويإن القول بثبات الحدود الأجناسية ووضوح مقاييسها هو قانون أدبي عام، نصّ عليه أرسطو وهو يصنف الأجناس ويميزها على وفق ما لها من ثوابت نوعية هي عبارة عن قوالب لفظية تختلف عن...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram