اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > المعجم الشعري و تمرئيات القصيدة الأثر..معاينة نقدية في قصيدة الهروب مع المصير لـ عبد الرحمن طهمازي

المعجم الشعري و تمرئيات القصيدة الأثر..معاينة نقدية في قصيدة الهروب مع المصير لـ عبد الرحمن طهمازي

نشر في: 4 فبراير, 2023: 11:25 م

د. نادية هناوي

2-2

التمرئي الطرفي/ هو عبارة عن ثلاث مهيمنات أسلوبية تتوزع داخل المتن الشعري للقصيدة وتلتقي عند الصورة كبؤرة فيها يتشكل المعجم.

وقبل أن نتحدث عن هذه المهيمنات علينا أولا أن نوضح مفهوم المهيمنة الذي وضعه ياكوبسون على خلفية ما أسسه الشكلانيون مثل شكلوفسكي وغوكوفسكي وتيتانوف وايخنباوم وفينوغرادوف من تصورات، تنحصر في حدود دراسة الشكل الشعري لكن ياكوبسون طور هذه التصورات فعد النص نسقا تؤلفه مجموعة من المهيمنات وكل مهيمنة تعكس علاقة وظيفية معينة مع العناصر اللغوية.

والمهيمنة هي التي تصنع الشفرة ووظيفتها معجمية تعطي النص نسقية معينة، وهذا أمر مفروغ منه نقديا بيد أن كثرة تعامل النقاد(الاتباعيين) مع مفردة النسق غيّب مفهومها الأصلي الذي هو شعري وجعلها ذات معنى ثقافي لا صلة له بميكانيزيما الإبداع الشعري، بل بالشخصية(العربية المشعرنة) فلفظة النسق(تؤسس لسلوك غير انساني وغير ديمقراطي)1 واشتقت منها تعابير مثل(خلل نسقي وتحولات نسقية وانساق ذهنية وعيوب نسقية) بل إن هؤلاء الاتباعيين دعوا إلى(النجاة من النسقية والتشعرن) وبالطبع لا ينتج هذا الفهم لمفردة النسق أية دلالات لها صلة بالشعر ومهيمناته الأسلوبية.

والمهيمنة الأسلوبية الأولى التي تعطي للقصيدة نسقية فتحقق لها وظيفة معجمية تتمثل في ضمير الخطاب الذي يحضر مهيمنا في القسم الأول من القصيدة (ستفتح/ تنفعك/ يجديك / فمك/ حولك/ اقلب/ انظر/ تكلم/ امنع/ يدك) ثم تتحول الهيمنة في القسم الثاني إلى ضمير الغياب ثم يعود ضمير الخطاب فيهيمن مجدداً على باقي القصيدة. أما ضمير المتكلم، فلا وجود له البتة داخلها، وفي ذلك دلالة على نزوعها الجماعي رغم ما فيها من الذاتية.

والمهيمنة الأسلوبية الثانية تتمثل في التركيب الوصفي للصور الشعرية، وهو عبارة عن رصف الواصف والموصوف رصفا يفضي إلى دلالات مؤنثة(الرمية المتماسكة/ الحيطة المشلولة/ الافعال المضارعة/ السلالة الجديدة/ الخلايا الغنية/ الزوايا الراخية/ حوائجها الثانوية/ دماءها الجائعة/ فوضى مغناطيسية / القبور المتجولة / الاسباب الدافئة/ الكيانات المستحقة/ الديون المحنكة/ الضرورة الجريئة/ القوافي اللجوجة/ السفينة الموالية/ التفاؤل المرعوب/ الديموقراطية المعربدة/ النعمة المتكالبة/ المنافي الغامضة/ للسياسة اليوميّة/ الضرورة الجريئة/ الوعود المتباهية/ النقمة المخزونة/ الهزائم الطوعيّة والمفاتيح المتناقضة/ أرواح ثقيلة/ الخمرة الواضحة الألحان السكرى/ الدموع الحبيسة/ كالمرايا المنافقة/ الحروب الأهليّة /الوسائل المجدولة / الرتابة المحسوبة/ الاحزان الشرقية/ السياسات الخنثوية/ المستعمرات الفولكلوريّة)

المهيمنة الأسلوبية الثالثة هي الافعال المضارعة التي تعطي للجمل الشعرية حركية وتضفي عليها طابعا دراميا يجعلها مستمرة استمرارا، معه تقوى اواصر الوصل بين المفردات المتناقضة والمنفصلة والمتعارضة على وفق مبدأ المنفعة فـ(ليس هناك جملة ولا سلسلة من الجمل يمكن ان تكون مجانية ليس ما يتشابه يجتمع وإنما بالتأكيد ما يجتمع يتشابه)2 (تستيقظ، تسترد، يحترف، تتسرب، يخسر، تغرق، ينتشر، ترتوي، تعصر، يقطع، يسعها، تحكم، يعاد، تتهامس، يضطرب، يؤسس، تسير، يستقيم، تشتق، يباع، يستورد، يكتشف، نعرف، نعود، ترتد، يضخ، يمد، تختنق، نقتبس، تفقد، يتشبث، تتكيء، ستعزف،تتجاذبها، تتاكد، تهبط، تصعد، تمتص، يقترب، يضع، تمشي، تحمل، يبعثون، ترسل، ترحل، تفقدها، يمرح، ينهل، يدفا، يجلو، يريد، ترعرع، يسعى، سيربح، تتفاهم، تفتح، تنبسط، تكتشف، تلحق، تستطيع، ترويها، تتصيد، تعجز، يذوب، ينفطر، يفهم، يصهل، يتحسر، تقرع، تهرب، ينمو، يضع، يتغذى، يزرع، تعترف، تحترم، ينفصل، تتصرف، تتماحك، يصلها، تحتفظ، ستجرؤ)

التمرئي البيني/ هو عبارة عن تراكيب صوتية تتوالى داخل الاطراف الثلاثة التي تمثلها المهيمنات الاسلوبية اعلاه ثم ترتد مجتمعة عند المركز حيث الصورة/البؤرة فيتعزز ما فيها من تآزر وتلاؤم، وتتنوع مؤشراتها المعجمية ما بين الدلالة على النقص والزيادة أو الوصل والفصل أو المحتمل أو اللامحتمل أو السأم والسعادة أو التخفي والظهور أو التداعي والقصدية.

وإذا كان التمرئيان المركزي والطرفي محددين في البناء التركيبي للجملة الشعرية كأنساق دلالية، فان التمرئي البيني يتحدد في النسقية الصوتية للجملة الشعرية المتأتية من تناغم المفردة الواحدة وتلاؤمها مع المفردات المجاورة، وكالاتي:

أ ـ التوازي: بنيات ثنائية تطريزية تنظم تماسك النص وتبعد عن تراكيبه الرتابة مشكلة نسقا متناغما يصنع فعله الاستعاري في ترتيب الدلالات المتناقضة. وكان ياكوبسون قد درس التوازي في الشعر الفلكلوري الروسي ووجد(أن تحليلا لسانيا صارما يسمح بادراك مختلف تجليات التوازي الشعري ويقدم التوازي الشعري بدوره دعما ثمينا للتحليل اللساني للغة انه يعين بدقة ما هي المقولات النحوية وما هي المكونات التركيبية التي يمكن ادراكها بوصفها تماثلات في نظر جماعة لغوية ما وتصبح بهذا وحدات متوازية) 3. وفي قصيدة(هروب مع المصير) يتحقق التوازي في تراكيب لسانية معينة، تتحقق فيها مفارقات وتقاربات تصب في باب اتمام البعد الصوتي والدلالي للمعجم الشعري(الآن لن/ حولك فمك/ خسر ابتكر/ زمان مكان/ القبضة القصة/ اخذت اخذها/ يبتسم يستطيع / تستقيم ولا تستقيم/ المستحقة المحنكة/ المسابقة المنسحبة/ انتقال انفصال/ انفسنا من اجل انفسنا/ الاعمال والاقوال/ البشر كالبشر/ دمعة الجمال على خد الزمان/ الصامتين العالقين/ التقاسيم السلالم/ الأمومة عذوبة/ العارف الغريب/ الراجف الزاحف/ الحريّة العبوديّة/ الاصوات والاشارات/ السمعُ عن البصر/ الافخاخ الالحان/ محتارين طواحين/ الألوان الانداد/ ديكورات غايات/ متوارثة متسارعة/ الذكورة والانوثة/ تحصيل حاصل/ مستعارة متطايرة/ اختبار اجبار/ مرة بعد مرة/ الصورة البؤرة/ صدأ الصدأ/ خنثوية فلكلورية) فيغدو المفارق مرافقا، والمباعد مقاربا، والغريب اليفا، والواهن قويا. وهو ما يؤدي في القصيدة دورا فكريا يجعل للجملة مظهرا جديدا ينبثق عن مظهرها المألوف والمعتاد. والتوازي عنصر مهم في الشعر وقديم ايضا فقد اشتملت عليه لغة القصائد الملحمية وعرفته القصيدة الغنائية والدرامية، وبه يتحقق الربط بالمجاورة والمشابهة والمباينة.

واذا كانت التعبير عن الدلالة بضمير الخطاب والفعل المضارع والوصف، فان التوازي الشعري أضفى على القصيدة أبعادا صوتية فيها السارد عرّاف(العارف الغريب) ولان كما يقول الصوفية(من لا شيخ له الشيطان شيخه) صار السارد في القصيدة مريدا له شيخ (قال شيخی: فالفتق أنجاها) فشيخه هو الذي علمه كيف يجلو صدأ الرؤية بالتساؤلات والإرشادات، فتنبأ بتراجيدية المصير:

قال شيخی فالفتق أنجاها واختبر الزمان والمكان

وجذور الحريّة والعبوديّة وحثّ الإشارة

في بوصلة سليمان على التكرار الذي يجلو صدأ

الرؤية والثقة والمفاتيح المتناقضة هذا الصدأ

المتقيّح يريد طمس رائحة هذه الأرض وشعاعها

الذي ترعرع بين البشر وكالبشر يسعى

مثل دمعة الجمال التي تلألأت على خدّ الزمان

كما ذكر العارف الغريب الذي تدرّب على

هدف لا يستريح في وسائل مقرفصة في

دائرة لا تتفاهم بل تدور كأهداف

مستعارة متطايرة في أرواح ثقيلة فوق

الفجر النادم فالخمرة الواضحة ستفتح الباب

الجديد وهناك تنبسـط اللحظات للدفاع الكريم

وتكتشفه الأوتار في الألحان السكرى

لا تلحق بها الأصوات ولا الإشارات،

التي لا تستطيع الوقوف في قصّة ترويها

الافخاخ وتتصيّد المصير كفيلنا الوحيد.

ووجود سارد عرّاف أمر عرفته القصيدة الطهمازية منذ بواكير نظمها ففي قصيدة (القافلة) يتساءل(ما الذي قد أضاع من ضيع الأثرا) ويبتغي في قصيدة ماذا تريد(أريد سؤالا لا يتبنى أجوبة)

ب ـ التجانس/ يتولد من الجمع بين المتضادات والمتخالفات والمتناقضات يقول بورخس في قصة اطلون(فالكتاب الذي لا ينطوي على كتابة النقيض يعد ناقصا) فالانسجام لا يتولد سوى من التنافرات والعالم يبدو واحداً على تباين مكوناته. وفي قصيدة(الهروب مع المصير) يتحول ما هو غير متوافق ولا طبيعي إلى متآلف وطبيعي عاكسا نزوعا صوفيا واضحا حيث الصورة هي السبيل الى المعرفة، يقول ابن عربي في «»فصوص الحكم»»:(لولا سريان الحق في الموجودات بالصورة ما كان للعالم وجود) ومن هنا تكون العلاقة مرآوية بين الرائي الذي يرى صورته متجسدة في الأضداد وبين المرئي الذي يتشكل من توافق هذه الأضداد.

ومن مؤشرات هذا التجانس الثنائيات الضدية التي منها تتشكل نسقية المعجم الشعري مثل (المتماسكة/ تحركت، تحرير/هزيمة، السؤال/ الجواب، المترادفات/ الأضداد، الماضي/ المستقبل، الجماعة/الفرد، الخير/ الشر) ويحرض تكرار هذه الثنائيات القارئ على التفكير في الصورة الكلية للقصيدة بحثا عن معانيها العميقة لاسيما في خاتمة القصيدة:

(فيها الإخلاص والخيانة في علوم الجمال المتسارعة

التي تعترف بها دول تحترم نفسها بحذر شديد

والظلّ لا ينفصل عن النور كما تتصرّف حمّى

متسامحة مع واو المعيّة والقبول المركزي بالاختيار

الإجباري للأنوثة والذكورة وغير ذلك من تحصيل حاصل الرتابة المحسوبة على الأحزان الشرقية: (دون دراية بضخامة العوائد

على ذاكرة تتماحك

والانشاء الجديد ولا يصلها الّا نصف

النداء وتحتفظ السياسات الخنثوية

بالنصف الثاني من معجزة تبذير المستعمرات الفولكلوريّة

فهل ستجرؤ أنت على النسيان).

ويؤدي الوصل الذي به تترابط سطور القصيدة الى جعلها كلية من صور سردية أرضية وعلوية، نباتية وحيوانية تجتمع فيها الأزمنة، فتبدو كأنها تعويذة لمعراج صوفي، فيه تجتمع طلاسم ثلاثة هي الطبيعة والأخلاق والذات. والغاية تعليمية(تعلم حياكة الألوان من عطش الصورة) و(امنع الزمان من التطفل)

ومثلما في الطاء والسين تكون الطواسين، فكذلك تتجانس المفردات المتضادة في القصيدة فتبدو كدائرة عرفانية تفهم بثلاثة مفاتيح: مفتاح الحقيقة / مفتاح الفهم / مفتاح الأزل.

ويلغي هذا التناغم الدلالي للأجزاء المتنافرة، الرتابة من جانب ومن جانب آخر يعيق عملية اقتطاع سطور شعرية معينة لأجل التمثيل بها، فالقصيدة وحدة واحدة دلالية بالمشابهة والتباين والمجاورة معا.

بهذا الشكل من المهيمنات الأسلوبية والوحدات الدلالية والتمركزات النسقية يصبح لقصيدة (الهروب مع المصير) معجمها الشعري الخاص، فتغدو قصيدة أثر، تدل على شاعرها عبد الرحمن طهمازي كخصوصية إبداعية فيها الشاعر مفكر بوجوه كثيرة، وجه الصوفي ووجه الفيلسوف ووجه البلاغي ووجه القاص ووجه المؤرخ ووجه العراف. واجتماع هذه الوجوه يعني ان للاضداد حضورا وقد التفت جميعها حول مركز واحد منسجم ومتناسق هو (الصورة) التي قلبها الشاعر على اطراف قصيدته وهو يخاطب ظلها وانتقل بها ونوّع في طرائق رسمها فجعلها كالقصة وصيرها مرات كالهدف. فتأكدت في هذه القصيدة الأثر تلك الخصوصية الابداعية التي نجدها متوفرة توحدا وتماثلا ومضاداة وتكرارا وفصلا ووصلا في دواوين الشاعر الأخرى مثل(ذكرى الحاضر) و(تقريظ للطبيعة) حيث ينحل الزمان فيكون الماضي هو الواقع، ويغدو المستقبل كأنه الحاضر بينما الواقع ليس واقعاً، لا لشيء سوى أن الشاعر لا يحاكي الحياة، بل هو يعيشها تخيلاً ويتخيلها معايشة.

الإحالات/

1. النقد الثقافي قراءة في الانساق الثقافية العربية، عبد الله الغذامي، المركز الثقافي العربي، المغرب، 2005، ص7.

2. الرمزية والتأويل، تزفتان تودوروف، ترجمة اسماعيل الكفري، دار نينوى، دمشق، 2017، ص62.

3. قضايا الشعرية، رومان ياكوبسون، ترجمة محمد الولي ومبارك حنون، دار توبقال للنشر، المغربن 1988،ص109.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

للحفاظ على «الهدنة».. تسريبات بإعلان وشيك عن موعد انسحاب القوات الأمريكية

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

قناديل: أما كفاكُمْ تقطيعاً بأوصال الوردي؟

التجنيس الأدبي والاكتفاء الذاتي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

رمل على الطريق

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

موسيقى الاحد: جولة موسيقية في فيينا

مقالات ذات صلة

التجنيس الأدبي والاكتفاء الذاتي
عام

التجنيس الأدبي والاكتفاء الذاتي

د. نادية هناويإن القول بثبات الحدود الأجناسية ووضوح مقاييسها هو قانون أدبي عام، نصّ عليه أرسطو وهو يصنف الأجناس ويميزها على وفق ما لها من ثوابت نوعية هي عبارة عن قوالب لفظية تختلف عن...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram