TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناطر: مع المعرّي على مائدة في البصرة

قناطر: مع المعرّي على مائدة في البصرة

نشر في: 5 فبراير, 2023: 11:07 م

طالب عبد العزيز

بعيداً عن صخب الباعة والتجار في السوق، وقبل أن تفرغ المقهى البائسة من روّادها، ساعة يكونُ الغرباء، من نزلاء الفنادق وغيرهم قد آبوا الى سررهم، يكون رهطٌ من شيوعيين قدماء، أدباء ومثقفين، جامعو قصائد منسية، ورواة حكاياتٍ لم يعد يأبه بها أحدٌ قد تسللوا الى أحد المكاتب الصغيرة في الضاحية القديمة، حيث يبدأ الليلُ عدَّه التنازلي،

ويسمحُ مستعملو الطريق للجرذان بالوصول الى النهر القريب، لألتقاط ما يرمي أصحابُ المطاعم به من خبر وخضار ولحم بائت .. هناك، على المقاعد الضيّقة الرخيصة، ومع الخمرة بكل تأكيد، يُحاول هؤلاء استعادة وطن، لم يئن لقيامته بعدُ أن تقوم.

في المدن الكبيرة، كثيرة الضوء والعلامات، وعبر إشارات الازمنة والدهور، يحدث أن يأتي رهطٌ من الشعراء والقصاصين ومتبضعي الكلام العابر، ومن متصفحي السعادات الناقصة، ربما أستبدلوا الليلة بليلة آخرى، أو المكان الضيق هذا بآخر أوسع قليلاً، أو أضيق أكثر، لكنهم سيأتون، بكل تأكيد، يطرقون ويدخلون المكان من الباب ذاته، خفافاً بالمآزر البحرية مرة، وبالقمص الحرير مرة أخرى، وقد يستبدلون السراويل والاكمام والقبعات، لكنْ، سيتخذُ كلُّ واحد فيهم مجلسه، على المقاعد الضيّقة تلك، وربما زحزح المقعد أحدُهم، واستجاب الصاحبُ لمجلس غيره الغائب، فهم يرددون الجمل والقصائد والاخبار ذاتها، أو يخوضون في حديث الولاة والسلاطين. ربما انقطع بعضهم أو توقف في منتصف الطريق، في المسافة الغامضة بين الذهاب والاياب، ففي فكرة الأوبة أكثر من صدىً ومعنى.

فهم مثل سكان بنثيسيليا، احدى مدن ايتالوكالفينو، إنْ سالت احداً منهم السؤال التقليدي: لِمَ تاتي؟ سيجيبك بأنه يأتي ليثمل، وإنْ سالت آخر سيقول لك: لانام، وسيجيبك آخر: لأحلم.. وهكذا، ستختلف الاجوبة، مع أنَّ السؤال واحدٌ، لكنك لو قاربت بين الاجابات الثلاث، وواءمت بين طابوق المعنى وملاط السؤال لوقعت على سرِّ مجيئهم، فهم يثملون وينامون ليحلُموا. وما المكان والزمان والخمرة والكوؤوس والمقاعد والحكايات إلا اداة لحلم واحد. الحلم الذي لن يتحقق أبداً، لأنه لو تحقق سيضلوا المكان هذا، وتتفرق السبلُ بهم، وربما أفاقوا في زمان آخر، وبذلك ستتعطل آلة السؤال.

في الليلة قبل الاخيرة دخل المعرَّي، أبو العلاء، الاعمى، تلّمسَ مِقعده بينهم وجلس، لم يشأ أحدٌ منهم الخوض في حديثه، فهو رجل مستغلَقٌ على كثير منهم، وكان متجهماً، لكنَّ هاشم تايه، صاحبُ(عربة النهار)لَمَزَهُ، وهو العالم بعماه. ظلَّ المعريُّ على تجهّمه ساعة، والصحبُ عائمون في بحر من (الفصول والغايات)*.. لكأنه أبصرَ هاشماً، وهو يلْمِزه، فقطَّب، ثم أشاحَ بوجهه عنّا، وخرج. صِحنا به جميعاً، فلم نستوقفه. كان كاظم اللايذ، الشاعر(الذي شوهد مغادراً باب الهوا) معنا فقال: أنا له. لذا، تبعه حتى حاذى النهرَ وإيّاه، ثم جاء به، فانضما لمجلسنا ثانيةً. شربَ المعريُّ شيئاً من خمرة وضعتْ امامه، على علمنا بزهده في أشياء كثيرة، من مباهج ولذائذ الحياة، ومن الأشربة أيضاً. لكنَّ أقواله في الخمرة تنبئ بأنه كان من أعرف الناس بها، ألم يقل بفعلها وذكر أنواعها، ألم يأت على الأماكن التي أُشتُهرت بصنعها، ألم يصف الأواني التي كانت تشرب وتحفظ بها، كيف لا، وهو الذي زاد تسعة أسماء على أوانيها، التي وردت في المعجم، وهو الذي عدد أربعين اسماً لها. ولمّا وجد فينا شيئاً مما يظنه بين الفقراء والزهاد أنِسَ بحديثنا عنه، لم يسألْنا كأساً ثانية، كأننا تذكرنا قوله:

وشربتُ كأساً في الشَّبيبةِ سادراً

فوجدتُ بعدَ الشيبِ فرطَ خُمارِ

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: الخوف على الكرسي

العمودالثامن: ماذا يريد سعد المدرس؟

العمودالثامن: لماذا يطاردون رحيم أبو رغيف

العمودالثامن: قضاء .. وقدر

لماذا دعمت واشنطن انقلابات فاشية ضد مصدق وعبد الكريم قاسم؟

العمودالثامن: أين لائحة المحتوى الهابط؟

 علي حسين لم يتردد الشيخ أو يتلعثم وهو يقول بصوت عال وواضح " تعرفون أن معظم اللواتي شاركن في تظاهرات تشرين فاسدات " ثم نظر إلى الكاميرا وتوهم أن هناك جمهوراً يجلس أمامه...
علي حسين

كلاكيت: رحل ايرل جونز وبقي صوته!

 علاء المفرجي الجميع يتذكره باستحضار صوته الجهير المميز، الذي أضفى من خلاله القوة على جميع أدواره، وأستخدمه بشكل مبدع لـ "دارث فيدر" في فيلم "حرب النجوم"، و "موفاسا" في فيلم "الأسد الملك"، مثلما...
علاء المفرجي

الواردات غير النفطية… درعنا الستراتيجي

ثامر الهيمص نضع ايدينا على قلوبنا يوميا خوف يصل لحد الهلع، نتيجة مراقبتنا الدؤوبة لبورصة النفط، التي لا يحددها عرض وطلب اعتيادي، ولذلك ومن خلال اوبك بلص نستلم اشعارات السعر للبرميل والكمية المعدة للتصدير....
ثامر الهيمص

بالنُّفوذ.. تغدو قُلامَةُ الظِّفْر عنقاءَ!

رشيد الخيون يعيش أبناء الرّافدين، اللذان بدأ العد التّنازلي لجفافهما، عصرٍاً حالكاً، الجفاف ليس مِن الماء، إنما مِن كلِّ ما تعلق بنعمة الماء، ولهذه النعمة قيل في أهل العِراق: "هم أهل العقول الصّحيحة والشّهوات...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram