اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > دراسة ثقافية.. نقد ثقافي .. فوضى منهجية واتباعية تزويقية

دراسة ثقافية.. نقد ثقافي .. فوضى منهجية واتباعية تزويقية

نشر في: 11 فبراير, 2023: 11:06 م

د. نادية هناوي

اتخذ نقاد الأدب في الغرب مثل ت. س. إليوت وليفيز وامبسون وارنولد وريتشاردز من (الثقافة) وسيلة منهجية مع مجموعة منهجيات أخر،

أسسوا عليها الحداثة النقدية وواجهوا منظومات فكرية وقفت في وجوههم، بدءاً من جامعاتهم والأقسام التي عملوا فيها وانتهاء باللوغوس الغربي والارتهان بثوابته ومنطلقاته. ومثل ذلك كان بعض المفكرين والنقاد العرب من الذين وجّهوا منهجياتهم نحو التنوير والتثوير وتمردوا على الفكر المحافظ والرجعي مثل طه حسين وحسين مروة ونصر حامد أبو زيد وغيرهم. فكانت(الثقافة) بالنسبة إلى هؤلاء النقاد هي المنهج وهي الغاية في دراساتهم النقدية والفكرية. ولقد ساعدت العولمة منذ مطلع هذا القرن في أن تكون الثقافة أكثر تأثيرا وأقوى منهجية في توجيه النقد الأدبي، وأسفر هذا التوجيه عن بروز الدراسات الثقافية كحقل معرفي أنيطت به أدوار جديدة تقوم في الغالب على التعابر والانفتاح والتعدد.

وما من شك في أن الدراسات الثقافية هي مقاربات منهجية، لها مراجعها الفلسفية وموضوعيتها التخصصية والأكاديمية. ولا تتحدد دوافعها المعرفية بأهداف سياسية كما لا تتقوقع اهتماماتها في العلوم الاجتماعية. وعلى الرغم من السعة الميدانية التي تتمتع بها، فإنها تظل فرعا من النظرية الأدبية ومصدر قوة لها، تمدها بكثير من طرائق التفكير وتزودها بالمفاهيم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والإعلامية والبيئية والتكنولوجية التي تخلصها من بعض الطوباوية الجمالية والتزويق الفكري. وقد عُرفت الدراسات الثقافية كتخصص معرفي داخل بريطانيا في ستينيات القرن العشرين ولاقى هذا التخصص توسعا فيما بعد عند نقاد المدرسة الانجلوأمريكية. ولأن السمة الأساس لهذه الدراسات هي التعددية، لم تحظ باهتمام مفكري المدرسة الفرنسية الذين توجهوا نحو التخصصية والنوعية.

ولا تمتلك الدراسات الثقافية شكلا محددا ولكنها لا تختلف عن النقد الأدبي من ناحية أن النصوص هي مادتهما تحليلا وتفكيكا، وهي تعد استكمالا ما بعد حداثي للمدارس والنظريات الأدبية. أما استعمال مصطلح النقد الثقافي فورد لدى الناقد الأمريكي ايزابرجر في كتابه(Cultural criticism: primary of key concepts)1995 بوصف هذا النقد استعارة ثقافية بها يتحقق التحصين المعرفي الذي فيه يظل الامتياز للنقد الغربي وحده. وبالشكل الذي يُبقي الهيمنة الثقافية قائمة ولا يسمح للدراسات الثقافية أن تنقلب بالضد على الدرس النقدي الغربي.

وقد جمع ايزابرجر بين النقد الثقافي والدراسات الثقافية ونظرية الأدب معتبراً النقد الثقافي نشاطا وليس مجالا معرفيا خاصا، بيد أن قصده ليس توسيع ميدان النقد الثقافي وانما توجيه القارئ غير المتخصص وتعليمه وبنزوع براجماتي به يتيسر المستعصي من الأفكار(making complex ideas accessible) من قبيل توصيفه لما بعد الكولونيالية بأنها نظرية الكوكاكولا وأن سمتها الميوعة blandness وأن الامبريالية الثقافية تعود إلى المفكرين الماركسيين بوصفهم هم الذين استعملوها في التدليل على أثر انتشار وسائل الإعلام الغربية.

في هذا الإطار بدا لكثير من النقاد العرب لاسيما في الآونة الأخيرة أن النقد الأدبي ومفاهيم النظرية الأدبية ومصطلحاتها قد انتفت فاعليتها وذهبت أهميتها الى غير رجعة، وأن الأفضل اتخاذ النقد الثقافي بديلا عن المناهج والنظريات. وهو ما جعل مفهوم (النقد الثقافي) يتفاقم توظيفه الى درجة الابتذال حتى يكاد يقضي على تاريخ طويل من الانجاز والتنظير النقديين، تارة من خلال ترك المناهج النقدية لعدم القدرة على توظيف المفاهيم والاصطلاحات النظرية والامبريقية وتارة أخرى بالتعكز على المفردات واجترارها من قبيل المركز والهامش والتعددية والنسقية والمغايرة والعنصرية والعولمة والهوية وما بعد الحداثية والانفتاح والاندماج واللامركزية والغيرية المجازية إلى آخر ذلك من المقولات التي استهلكت من كثرة تداولها بين أوساط الدارسين وبلا وعي علمي ولا آفاق نظرية.

إن الدراسات الثقافية سلاح ذو حدين، أحدهما يلغي التابعية باتجاه التبصر والاستبصار، والآخر يعزز التابعية باتجاه العمى الثقافي. وهو ما تريده الهيمنة الغربية كي لا يُسحب البساط من تحت أقدامها وكي يظل الحل والعقد في ما يتعلق بالمنهجيات والنظريات في يديها وحدها، فلا تنقلب الهيمنة إلى الضد منها. من هنا تأتي أهمية الوقوف الفاحص عند أسباب اصرار النقد العربي على البقاء تحت الهيمنة وبشكل نمطي مع ضرورة وضع المعالجات المناسبة التي بها يكون بمقدور النقد العربي إنتاج ثقافة أصيلة تؤثر وتتأثر معا.

ومعلوم أن الهيمنة الكولونيالية اتخذت من اللغة وسيلة، واليوم تتخذ ما بعد الكولونيالية وسائل أخر تطبِّق من خلالها فرضيتها القمعية التي تقول إن(رأس الملك لم تقطع بعد) متخلية عن الصيغ الخشنة في التعامل مع الشعوب ومستبدلة إياها بأساليب ناعمة أو شفافة تضمن لها استمرار هيمنتها الثقافية.

ولقد جعل هذا التعارض بين الإطارين النظري والعملي وذاك التجاذب بين الحداثة والانشداد إلى المحافظة من (الثقافة) عيبا يدلل على التبعية الثقافية وليس وسيلة في مواجهتها. ولا شك في أن هناك وسائل ناجعة تمكننا من المواجهة، أولها الاهتمام بعطائنا النقدي المتميز الذي فيه تتجسد خصوصيتنا وضرورة ترجمته إلى لغات الاخر الغربي، وإلا فإن التبعية ستستمر تتلبس المشهد النقدي كما تلبسته في العقود السابقة، وهدفها الاساس إثبات التفوق الغربي ومركزية طروحاته وأنظمته الابستيمية التي فيها النقد الغربي هو المنتج المصدِّر بينما النقد العربي هو التابع المستهلك.

وأهم صور الهيمنة هو نقد الحاضنة الثقافية العربية مقابل الانبهار بالحاضنة النقدية الغربية ومنظوماتها الابستمولوجية، وبدلا من أن تتفتت الهيمنة الغربية صار الانتقاص يطال تراثنا ازدراءً مما فيه من أنساق. هذه الأنساق التي يظن كثيرون أن النقد الأدبي لا يدرسها، فهل كان لياكبسون أن ينظِّر لمفهوم (الأدبية) لولا الأنساق؟!.

إن الأنساق تقاليد رسّخها النقد الأدبي بالتحليل والدرس وبها توطدت هويته، وعلى الرغم من ذلك، فإن الخطأ شاع ــــ وشيوعه دليل إخفاق في مواجهة التبعية ــــــ وما عادت الحداثة هي ما نتطلع إليه، بل صار النكوص إلى سلفية الانجاز هو المبتغى، ليكون قولنا(أمة شاعرة ولغة شاعرة سوى خدعة نسقية لم نع ضررها وأن من المعيب على نقدنا الأدبي انه لم ينشئ علم العلل كذاك الذي نشأ في علم مصطلح الحديث) وغير ذلك مما تحدث عنه كتاب(النقد الثقافي) للدكتور عبد الله الغذامي. وإذا ما جرَّدنا الكتاب من النظريات ما بعد الحداثية الغربية، فلن يبقى منه سوى انطباعات حول ظواهر في الشعر العربي فيها(الانساق) مجموعة موضوعات قبحية وأشخاص طغاة وماردين ينبغي رفع القداسة عنهم من قبيل(الشاعر الرجعي /جمالية العنف والعصا الرمزية /طرد المتن وتفحيل الحرة /زمن الموت العظيم /اللامطلق والسحرانية).

والغريب أن الدكتور عبد الله الغذامي تعامل مع النقد الثقافي كأنه شيء آخر غير الدراسات الثقافية التي قلل من أهميتها، فقال:(أفضل ما تفعله الدراسات الثقافية هو في وقوفها على عمليات إنتاج الثقافة وتوزيعها واستهلاكها.. الدراسات الثقافية توسع من استخدام نظرية الهيمنة فتشمل العرق والجنس والجنوسة والدلالة) وبسبب ذلك ذهب إلى دراسة الأنساق بدءا من الفحولة ـــ وهي معيار الأصمعي في تحكيم الشعر والشعراء قبل أكثر من ألف وأربعمائة عام ــــ وأن أبا تمام والمتنبي فحلان سامقان(لم نر ما أحدثاه في أنساقنا الثقافية من عيوب خطيرة هما وآخرون غيرهما) مرورا بالخطابات البلاغية والجمالية (المتشعرنة التي منيت بعيوب نسقية ورجعية) ومثال الدكتور الغذامي حداثة ادونيس(كخطاب لفظي لا يؤدي إلا إلى مزيد من النسقية والرجعية) وأن نزار قباني وادونيس (رجعيان في حين أن المؤسسة النقدية تؤكد على تقدميتهما خاصة تقدمية ادونيس التي يبلغ التسليم بها حد القداسة ولسوف نرى عكس ذلك لديهم جميعا ولدى الخطاب الثقافي المهيمن عربيا.) وانتهاء بإضافة النسق إلى خطاطة ياكبسون السداسية لتصبح سُباعية مع أن الغذامي لم يوضح الفارق في اشتغال الأنساق عن اشتغال الشفرات ـــ التي هي عنصر في الخطاطة الياكبسونية؟! ثم ما فرق الوظيفة النسقية عن الوظيفة المعجمية؟!

وإذا كان الدكتور الغذامي قد جعل ما سماه(النص النسقي) رديفا للنص الأدبي ليكون التحول من (نقد النصوص إلى نقد الأنساق) فإن في هذا مزيدا من الرضوخ للخطاب النقدي الغربي مقابل جعل خطابنا النقدي العربي يبدو في صورة المستهلك والقديم والقبيح والطاغية، بل إن تمركز الأنساق في تحليلات الدكتور الغذامي باستعمال مقولات النسق المضمر والنسق العلني والمؤلف المزدوج جعله يعد النصوص الثقافية هي وحدها ذات أنساق بينما النصوص الأدبية ذات أنساق عارية أي بلا نصية.

واليوم يردد الدارسون مفهوم(النسق) أخذا عن كتاب(النقد الثقافي) وغايتهم البحث عن المخالفة لا عن الحقيقة، واعتمادا على الانطباع وليس المنهجية.

وبالطبع ليس الدكتور الغذامي مسؤولا عن هذا الترديد الببغاوي الذي فيه صارت الهيمنة واضحة وموجهة نحو الحاضنة الثقافية العربية عامة بدلا من أن توجه نحو النقدية الغربية ومركزية هيمنتها على نقدنا العربي. وهذه المركزية أفادت الدكتور الغذامي نظرياً في الاطلاع على الثقافة الأمريكية فرجع إلى اشكروفت وبودريار وباومان وهومي بابا وكولر وجاك لوغوف وفيتشر مع قليل من الطروحات الفرنسية. ولكنه اختلف عن هؤلاء في أنه قَصَر نقده الثقافي على المنظومة الثقافية الادبية ولم يعممه على المنظومة الفكرية المركزية. وهو نفسه القائل إنه كان يكتب أبحاثه الجامعية مجاراة للنمط المعتاد في البحث الجامعي بخلاف ما يكتبه خارج الجامعة من نقود ثقافية. وفي ذلك تطامن وازدواجية أفادا الغذامي في مسك العصا من الوسط، فلا ألب المركز عليه من جهة، وقدم نفسه ناقدا غير نمطي من جهة أخرى. وها هو اليوم يحصد ثمرة تلك الوسطية والازدواجية كقطب مهم في المنظومة الثقافية المركزية التي كان أحد المهاجمين لها ذات يوم ولكن بعيداً عن أروقتها. ومن ثم نتعجب من أولئك الذين يرون فيه مثالا للباحث الشجاع الذي ثوّر ونوّر وقلب للمركز ظهر المجن. علما أن الببغاوات هم أنفسهم يؤكدون هروبه بآرائه بعيدا عن الحيطان الجامعية؛ فأين هذا من مواقف المفكرين الشجعان الذين سعوا بكل ما استطاعوا الى دكِّ تلك الحيطان كطه حسين وادونيس ونصر حامد أبو زيد؟!!.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

بالصور| تظاهرات حاشدة أمام وزارة التخطيط للمطالبة بتعديل سلم الرواتب

805 قتلى وجرحى بأعمال شغب مستمرة في بنغلاديش

مجلس النواب يعقد جلسته برئاسة المندلاوي

خبراء يحذرون: أغطية الوسائد "أقذر من المرحاض" في الصيف

القبض على 7 تجار مخدرات في بغداد وبابل  

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

رمل على الطريق

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

موسيقى الاحد: جولة موسيقية في فيينا

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram